كتاب جديد يرصد "مراوغات التضليل" الإعلامي

اسطنبول (تركيا) - قدس برس
|
مارس 15, 2024 3:33 م
صدر مؤخرا عن "مكتبة الأسرة العربية" (مقرها إسطنبول) كتاب "في شباك التضليل"، لمؤلفه الباحث والمتخصص الإعلامي حسام شاكر، ناقش فيه ما وصفه بـ "فنون التضليل وأحابيله".
وقال الكاتب إن "للتضليل فنونه وأحابيله، وهو يشقّ طريقه في الواقع الإنساني الحديث عبر وجوه غير متوقّعة أحياناً، أو يصعب رصدها أحياناً، ما يجعل الوعي بالتضليل حاجة متعاظمة لمجتمعات الحاضر".
ويبحث الكتاب الذي جاء ضمن عشرين كرّاساً فكرياً ونقدياً للمؤلِّف، مأزق الجماهير بين "فنون الاستدراج وأحابيل التضليل"، ويتتبّع كيفيات متعدِّدة من اشتغال هذه الفنون والأحابيل في الواقع، ومن ذلك "خيانة السياق"، و"التلاعب بالقيَم"، و"استعمال الإنسان شِعاراً وذريعة".
ويمحِّص الكتاب عبر معالجة نقدية ثاقبة خطابات ومقولات رائجة، منها مقولة "كُن مُختلِفاً" كاشفاً النقاب عن بعض وجوه استعمالها شعاراً، كما يتتبّع "حرباً ناعمة تقصف الوعي" قد لا تُلحَظ، بسهولة، رسائلها المسدّدة بعناية.
خيانة السياق
في باب "خيانة السياق" يرصد حسام شاكر مظاهر متعدِّدة لهذه الحالة، منها ما سمّاها "خيانة ثقافية"، حيث تقدَح خيانة السياق بالأمانة العلمية والنزاهة المعرفية عندما يعمد أحدهم إلى الاحتجاج بمصادر والتعامي عن أخرى، أو اقتباسِ أقوالٍ وصَرف النظَر عن غيرها، أو النقل عن صفحات مِن مَصدر وإغفال صفحات حولها عن سابق إصرار؛ لتعزيز توجُّهات معيّنة أو خدمة أحكام مُسبَقة.
ومِن صوَر خيانة السياق عند المثقّفين "أن يعلنَ أحدهم التزامَه بما لا يتقيّد به في الأحوال جميعاً، فهو يلتزم بالمبدأ المعنيّ مرحلياً، أو ينصاع له مؤقّتاً فقط، ثم لا يساوره تأنيب ضمير أن انقلب على عقبيْه، وقد يعكف على استدعاء مهاراتِه المعرفية في تبرير تناقضه مع مواقفه المنصرمة وتسويغ تعارضه مع مقولاته السابقة".
وتتجلّى خيانة السياقِ، في مقامات البحث عن شواهد إثبات لأحكام مسبقة أو ميول منعقدة ابتداءً، كأنْ يقوم بعضهم بوَضع استنتاجاته، ثم يبحث عن إثباتات لاحقةٍ لها؛ كيْ تبدو منهجية وعلمية ومُبرهَناً عليها، حسب المؤلف الذي ينبِّه إلى أنّ هذا المسلك يقضي بتسويغ كل رأي وتبرير كل موقف بلا مشقة، عبر اللجوء إلى حجج انتقائية يمكن العثور عليها في أي اتجاه كان".
ويشير شاكر إلى أنّ الرضوخ لبعض التقاليد الصحفية قد يُذكي نزعة خِيانة السياق، دون أن يمنحَ تَصَوُّراً عن الواقع كما هو، الأخبار والتقارير الصحفية النمطية تستهويها الاستثناءات والمفارقات، بينما تنصرف العلوم الاجتماعية إلى بحث الظواهر واكتشاف الأنساق".
ويرصد حسام شاكر ظواهر ذات صلة منها "خيانة السياق التحليلي، فليس الاشتغال التحليلي الذي تعرضه بعض الشاشات والمنصّات سوى ممارسة دعائية مشبّعة بالتدليس والتضليل".
أمّا خيانة السياق التاريخي فتقع مع مُجرَيات التاريخ وسرديّاته، كأن تُستلّ وقائع وحكايات أو نصوص وروايات من سياقها، وتُدمَج على نحو تعسُّفي في سياقات مغايرة، أو تُسبغ تأويلات مضللة عليها بصفةٍ تخالف حقيقتها أو تُناقِض سياقاتها الأصلية، وفق شاكر.
التلاعب بالقيم
وفي باب "التلاعب بالقيم" ينطلق المؤلف من واقع مفاده أنّ الخطابات والشعارات لا تقاوم إغراءَ استعمال القيَمِ النبيلة وتوظيف المبادئ السامية لصالحها، لكنّ رَفْعَها لا يعني وحدَه الامتثالَ لمقتضاها.
وأضاف "فمن يتذرّع بالقيَم والمبادئ والأخلاق خلال مرافعاته؛ قد لا يكون وفيّاً لها أساساً، أو لعلّه لم يلتزم بها كما ينبغي، وقد يأتي بنقيضها في الممارسة العملية، ويبقى التباهي بالقيَم حجّة على أصحابه، وليس حجّة لهم؛ إن لم ينهضوا بحقِّها، ولم يعملوا بمقتضاها".
الإنسان شعاراً وذريعة
وفي باب آخر يُحاكم حسام شاكر منحى استعمال الإنسان شِعاراً وذريعة، فعندما "يُرفَع الإنسان شعاراً، أو يُستعمَل غلافاً، أو يُتّخذ ذريعة؛ لا يقضي هذا بأنه الإنسانً ذاته في حقيقته وفحواه، أو في واقعه ومغزاه. أمّا تحويل الإنسان إلى مفهوم مركزي، فيخاطر باتخاذه مادة أيديولوجية لا تُحابي الإنسانَ في حقيقتها، وإنْ تملّقته شكلياً واستعملته لفظياً".
يرصد شاكر كيف دأبت اتجاهات ونزعات وفلسفات على مصادرة مقولة "الإنسان" لذاتها، واحتكار مفهومِه لصالحها، أو استعماله والتذرّع به بغرض مواجهة قيم والفتك بمبادئ.
ومع ذلك ينبِّه المؤلِّف إلى أنّ "كلِّ وجوه التلاعب الفجّة بالمقولة ومناحي استغلالها لا ينبغي أن تسمح بنَفْي الإنسان أو إسقاطه مِن الوعي أو فقدان الحماسة الرشيدة له، لكنّ استحضارَ الإنسان في المرافعات يقتضي يقظة نقدية ومساءلة مضمونية وفحصاً للمقاصد وتحقُّقاً من المصداقية"، وفق ما كتب.
دعوات مضللة للاختلاف
وعن دعوة الفرد إلى الاختلاف عن نسقه يقدِّم شاكر باباً نقدياً صارماً بشأن هذه الظاهرة الخطابية، ومن ذلك أن يبالغ بعض المتحدثين في حثّ الشباب على أن تكون لك منهم "شخصية مستقلة"، وأن يستعملوا عقولهم وينصاعوا لضمائِرهم؛ في خطابات مرئية مشبّعة بمقوِّمات استلاب الوعي وبواعث الهيمنة على الوجدان ومؤثِّرات تكبح التفكير الناقد إزاء المتحدثين أنفسهم.
وتبلغ المُفارَقة مبلَغَها عندما يتكثّف الإلحاح على مقولات من قبيل "لا تجعل أحداً يصادر عقلك!"، من منصّات مكرّسة لمصادرة العقل والتحكم الناعم بالوعي بأساليب مُخاطبة مُشبّعة بالمؤثرات المتضافرة؛ التي تمنح جمهوراً خاضعاً لها رَشفة تَحرُّر وَهمِية، حسب شاكر.
يستنتج المؤلف أيضاً أنّ بعضَ شِعارات "التحرُّر" قد لا تكون في فحواها سوى مدخلٍ إلى الاستلاب واستدراجٍ إلى الاتِّباع؛ على نحو يقضي بمفارقة فلَك والالتحاق بآخر؛ وهذا بطيب خاطر. وإن اكتسب الأسلوب طابعاً إصلاحياً حميداً في بعض استعمالاته؛ فإنه يأتي مُشبّعاً بالتذاكي والتدليس والتضليل في حالات أخرى.
حرب أفكار
وفي باب آخر عن "حرب ناعمة تقصف الوعي" يرسم شاكر ملامح حرب أفكار تباشر التجريف المعنوي الواسع من تحت الأقدام، مشيراً إلى "مدافع تقصف الوعي في أعماقه دون مناقشة؛ تأسيساً على خبرات تطوّرت خلال الحرب الباردة في قرنٍ مضى".
يذكر المؤلِّف: "من الواضح أنّ الهجمة على الوعي العربي تسعى اليوم إلى حشره مجدداً في قمقم احتواه في زمن مضى، مع المراهنة على إعادة إنتاج هوية المجتمعات ضمن قوالب محددة، وفرض تغييرات ثقافية واجتماعية جارفة".
يرى شاكر أنّ هذه الحملات ليست شفافة، ولا هي عادلة أو متكافئة، فهي "حرب المتنفذين الحريصين على استقالة المجتمعات المستهدفة، وتعطيل قواها الحيّة، وإشاعة أنماط متذاكية من البلادة التي تحَرِّض على تحييد العقول إزاء تدفّقات كثيفة مُسَلّطة على الوعي الجماهيري.
وفي التفاصيل أنّ "التلاعب يمتدّ إلى المناهج المدرسية والإرشاد الديني والمضامين الإعلامية والصناعة الثقافية، علاوة على افتعال شعوب افتراضية بديلة عن شعوب الواقع، كي تُصادِر أولويّاتِ الجمهورِ، وتوجِّه اهتماماتِه في مواقع التواصل الاجتماعي، بفعل الجيوش الإلكترونية وأصحاب الإطلالات الإعلامية والشبكية المأجورة".
تصنيفات : الأخبار