غزة الجريحة تعيد كتابة تاريخ النكبة (بورتريه)

المذكرة التي أرسلها المجاهد الكبير عبد القادر الحسيني بخط يديه، والمؤرخة بتاريخ 6/4/1948، إلى أمين عام جامعة الدول العربية، والتي يقول فيها: "إنني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح"، تختصر حكاية النكبة وفلسطين منذ أن وطأت أقدام أول مهاجر يهودي أرض فلسطين وحتى التواطؤ على غزة اليوم.
نكبة، أضاعت أكثر من نصف مساحة فلسطين، تبعتها "نكسة" أتت على ما تبقى من فلسطين التاريخية، وضاعت الأرض وشرد شعبها، والباقي تفاصيل، حتى جاء " طوفان الأقصى" فأصبحت فلسطين في قلب العالم بعد 76 سنة من التضليل والضلال والإضلال.
ذكرى النكبة هذا العام تأتي في ظرف استثنائي ومفصل حقيقي، حيث بدأ العالم يكتشف حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، ويسأل: ماذا جرى قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولماذا حدث " طوفان الأقصى"؟!
بدأ الكثيرون يبحثون في الأرشيفات، وفي الوثائق القديمة، وفي كتب التاريخ، وفي الأفلام الوثائقية عن أصل الحكاية، ومن أين بدأ السرد الصهيوني الخادع والمخادع لتاريخ الصراع، وكيف نشأت دولة الاحتلال في عام 1948؟!
بدأ العالم يتعرف على سرد جديد ورواية جديدة لما جرى لفلسطين ولشعبها على مدى 76 عاما وحتى قبل ذلك بكثير في مطلع القرن الماضي.
وكشفت الصور المحفوظة في الأرشيف البريطاني وفي أرشيف الصحف والمجلات ووكالات الأنباء العالمية ومكتبة الكونغرس الأمريكي، عن حجم المقاومة الفلسطينية والعربية للمشروع الصهيوني، وعن حقيقة الحركة العمرانية والتجارية والحضارية النشطة في جميع المدن الفلسطينية قبل النكبة، مما يفند مقولتين جرى غرسهما في عقل العالم، الأولى: بأن فلسطين كانت خالية من السكان وصحراء، والثانية: أن الفلسطينيين تركوا أرضهم وهربوا أو باعوها ولم يقاوموا.
لكن تاريخ فلسطين يقول غير ذلك وما خفي كان أعظم، إذ بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدأت قوى الاستعمار البريطاني التي "انتدبت" نفسها على فلسطين تنفيذ مخططها لبناء "دولة يهودية" على أرض فلسطين، وتوج ذلك عام 1917، بإعلان "وعد بلفور" الذي يؤكد على إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين.
ولم يقف أصحاب الأرض الفلسطينيون مكتوفي الأيدي، وإنما قاوموا بكل ما لديهم من قوة وسلاح جميع الخطط التي تسعى إلى تهويد بلادهم وإغراقها بموجات من المهاجرين اليهود، فقامت عدة ثورات لعل من أهمها ثورة فلسطين الكبرى التي استمرت نحو 3 سنوات ما بين عامي 1936 و1939 ، وطوال هذه السنوات كان القمع الوحشي البريطاني حاضرا ضد النضال الفلسطيني.
ومع تصاعد الهجمات الإرهابية الصهيونية ضد العرب والبريطانيين، قرر البريطانيون تسليم مسؤولية ملف فلسطين للأمم المتحدة التي تشكلت حديثا في ذلك الوقت، وضمت دولا بالكاد تعرف أين تقع فلسطين، ولا تعرف شيئا عن أصل الصراع.
وفي عام 1947، اقترحت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية.
شكل اليهود في فلسطين وقتها أقل من ثلث السكان إلا أن الخطة المقترحة من قبل الأمم المتحدة خصصت لهم 55% من مساحة فلسطين التاريخية.
وبعد أن تأكدت حكومة "الانتداب" البريطاني أن القوى الصهيونية من القوة بحيث تستطيع الدفاع عن نفسها، قررت إنهاء " الانتداب " في 14 أيار/ مايو عام 1948.
ومع اقتراب هذا التاريخ، كثف الصهاينة جهودهم للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية. وارتكب العصابات الصهيونية الإرهابية مجازر جماعية منظمة ضد الشعب الفلسطيني الذي ترك وحيدا دون أية وسيلة مقاومة، وعجلت الحرب النفسية التي شنها الصهاينة ضد الفلسطينيين من وتيرة الهجرة الجماعية للفلسطينيين، واستطاعوا، إفراغ الأرض من سكانها العرب.
وفي اليوم التالي أعلن رسميا عن إقامة "دولة إسرائيل".
وخلال دقائق قليلة، اعترفت أكبر قوتين في العالم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي بالدولة العبرية.
وفي عام 1949، انضمت للأمم المتحدة كـ"دولة"، وعززت سيطرتها على أكثر من 78% من أراضي فلسطين التاريخية.
وهجر نحو 66% من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948. وتشير إحصائيات إلى أن من طردوا عام 1948 كان حوالي 957 ألف عربي فلسطيني. وتقول أرقام رسمية للأمم المتحدة إلى أن عددهم بلغ نحو 726 ألف لاجئ.
لم تتوقف النكبة الفلسطينية عام ما جرى في عام 1948، فلا تزال عمليات التطهير العرقي وسرقة الأراضي والجرائم والقتل والاعتقال والإذلال في فلسطين التاريخية مستمرة حتى يومنا هذا.
وعلى مدى أكثر من 100 عام لم يتوقف النضال الفلسطيني وكان في حركة مستمرة تطور أدواتها وفقا للمرحلة، وعرفت فلسطين منذ بداية الهجرات اليهودية وحتى الفترة المعاصرة، عدة ثورات ضد القوى الاستعمارية، بريطانيا، وضد الاحتلال التوسعي لفلسطين عرفت بـ "الانتفاضات" و"الثورات"، واختلفت الأسباب التي أدت إلى قيام كل منها، وأولى هذه الانتفاضات كان ثورة البراق عام 1929 بسبب ادعاء المهاجرين اليهود بأحقيتهم في امتلاك حائط البراق، ثم تبعتها الثورة الفلسطينية الكبرى ما بين عامي 1936-1939 للمطالبة بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ثم جاءت معارك عامي 1948 و1967 وانطلاق الثورة الفلسطينية وممثلتها منظمة التحرير الفلسطينية.
ومع دخول حقبة الثمانينات، دخلت على خط المقاومة قوى فلسطينية عديدة، وكان أن اشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو "انتفاضة الحجارة" عام 1987، والانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 أو "انتفاضة الأقصى" التي انطلقت عقب تدنيس ارييل شارون للمسجد المبارك، والانتفاضة الفلسطينية الثالثة أو انتفاضة السكاكين عام 2015 وغيرها.
وبعد أن تم تدجين منظمة التحرير ودخولها في اتفاقيات "اوسلو"، كان لا بد من قيام حركات مقاومة ونضال لمواصلة المسار الكفاحي والجهادي، فكانت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، وباقي حركات المقاومة الأخرى مثل كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، وكتائب الشهيد عمر القاسم، وألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب المجاهدين والمقاومة الشعبية.
وحين بدا للعالم أن قضية فلسطين انتهت ودفنت ومحيت من ذاكرة العالم، بعد التطبيع العربي مع العدو، أرسل عليهم "الطوفان"، فبدأت شعوب الأرض في البحث عن الحقيقة ونبش الماضي القريب والبعيد والتعرف على أصل الصراع، وبأن الفلسطينيين يعيشون منذ 76 عاما في قمع وقتل وتعذيب واعتقال وسرقة أرضهم وتميز عنصري، وبأن الصهاينة يختطفون حكومات العالم التي تواطأت معهم طيلة هذه السنوات، وبأنهم نشروا رواية زائفة كشفت حقيقتها غزة وما أدراك ما غزة.
غزة العزة التي بجراحها ومعاناتها وخذلان حكومات العالم لها، أعادت الفلسطينيين إلى واجهة الحدث، وباتوا رمزا للحرية والصمود ولجميع قيم الإنسانية والتضحية والصبر حتى وهم تحت القصف والتجويع والتعذيب.
"الطوفان" وغزة بصمودها كانا رسالة واضحة للعالم لن تكون هناك نكبة جديدة، فنحن باقون ها هنا في وجه "العابرون في كلام عابر".