ماذا كان يفعل "عالم آثار" يهودي في أرض المعركة؟

حينما يكون المقاتلون في ميدان المعركة "جيش احتلال" يسعى إلى سرقة الأرض، وتأليف رواية مزورة لابتلاعها، فسيكون من الطبيعي أن ترى بين قتلى ذلك الجيش "عالم آثار".

لم يكن عالم الآثار اليهودي زئيف حانوخ إرليخ والملقب بـ"جابو"، في الصفوف المتقدمة للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، لتقديم خدمات الإرشاد السياحي لعناصر الجيش، ولم يكن جزء من الخدمات اللوجستية التي يحتاجها المقاتلون في ميدان المعركة، كان "جابو" جزءا من معركة لم يخضها التاريخ إلا "لصوص التاريخ"، ضمن استراتيجية تهدف لاستخدام الآثار لإثبات الحق في الأرض.

فتح مقتل "جابو"، في الكمين الذي وقعت فيه قوة من "وحدة ماجلان" في منزل جنوب لبنان (الأربعاء 20 تشرين ثاني/نوفمبر)، ملف سرقة الآثار وتزويرها من قبل علماء وباحثين يهود في فلسطين على نحو خاص والوطن العربي بشكل عام.
 
إرليخ قتل بعد أن دخلت قوة بقيادة رئيس أركان "لواء غولاني"، مقام النبي شمعون في إحدى قرى جنوب لبنان، وكانت تعتقد أن المنطقة جرى السيطرة عليها، لكن تبين وجود اثنين من مقاتلي حزب الله نصبا كمينا داخل القلعة الأثرية.
 
وبعد الدخول إلى المقام الأثري جرت مهاجمة قوة "غولاني" ما أدى إلى سقوط قتلى ومصابين، ومن بين القتلى كان إرليخ.
 
وتعد دولة الاحتلال نموذجا خاصا من الاحتلال عبر التاريخ الذي يقوم على تغيير وتزييف التاريخ من أجل مواصلة احتلاله وفرض أحقيته بالأرض استنادا إلى مزاعم تاريخية ودينية لا يوجد ما يؤكدها، وفرض مقولة يهودية الدولة عبر تزييف النقوش والرموز والحفريات وعمليات التنقيب.
 
ويقول الباحث في علم الآثار والتراث الثقافي خبير الآثار الدكتور حمدان طه، بأنه يوجد في كل نصف كيلومتر من مساحة فلسطين التاريخية موقع أثري ذو دلالة على الهوية العربية والإسلامية لفلسطين، وأن سلطات الاحتلال ترتكب أكبر جريمة بحق الآثار في التاريخ، حين تقوم بعمليات تزوير فاضحة تشكل جرائم قانونية.
 
وتعتبر فلسطين من أكثر الدول الزاخرة بالآثار القديمة منذ آلاف السنين، ويمكن اعتبارها متحفا مفتوحا على التاريخ، وعلى الجغرافية وعلى أهم الأحداث التي شهدها العالم القديم، وتنافس مصر بهذا الشأن عربيا، ومرت على فلسطين نحو 22 حضارة، أولها الحضارة الكنعانية العربية، ثم الاحتلال الصهيوني الحالي الذي يريد أن يعثر لنفسه على أي أثر أو دليل يؤكد ادعاءاته المزعومة.
 
وتشير دراسات أجرتها دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني في 2007، إلى وجود أكثر من 3300 موقع أثري في الضفة الغربية وحدها، فيما يصل عدد المعالم الأثرية إلى 10 آلاف معلم أثري وهناك ما يزيد عن 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية تضم ما يزيد عن 60 ألف مبنى تاريخي.
 
وحتى ما قبل قيام دولة الاحتلال في عام 1948 سعت الحركة الصهيونية إلى تشجيع علماء الآثار اليهود في البحث الأركيولوجي في كافة أماكن فلسطين بهدف تزوير الآثار الفلسطينية وإعطاء صبغة يهودية لها.
 
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حاول الاحتلال سرقة الأزياء والمأكولات والتراث الفلسطيني وترويجه عالما بوصفه تراثا يهوديا.
 
ويفرض الاحتلال الإسرائيلي سيطرته على 90 بالمئة من المواقع الأثرية الفلسطينية، وفقا لإحصاءات وزارة السياحة الفلسطينية.
 
ومن أخطر أشكال عمليات استهداف المواقع الأثرية والتاريخية التي تمارسها سلطات الاحتلال وأذرعها عمليات سرقة الآثار ونقلها من مواقعها الفلسطينية إلى متاحف تقع تحت السيطرة الإسرائيلية في داخل أراضي 1948 كما تمت سرقة الكثير من الآثار عن طريق عصابات تنقيب وسرقة الآثار.
 
وتشير دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطينية إلى تعرض ما يزيد عن 500 موقع أثري وأكثر من 1500 معلم أثري فرعي في الضفة للسرقة والتدمير من قبل لصوص الآثار المدعومين من قبل الاحتلال، إلى جانب تعرض عدد من مراكز القرى التاريخية لأعمال التدمير الكلي أو الجزئي.
 
ويعد القتيل إرليخ، من مؤسسي مدرسة "سدي عوفرا" الدينية، والمقامة على أراض استولى عليها الاحتلال من بلدتين سلواد ويبرود قرب رام الله، فضلا عن أنه تلقى تعليمه في مؤسسات الصهيونية الدينية المتطرفة، ودرس في المدرسة الدينية عند حائط البراق في القدس المحتلة.
 
وينحدر إرليخ من يهود بولندا، وألف العديد من الكتب عن تاريخ الإسرائيليين البولنديين، وخدم في جيش الاحتلال كضابط مشاة وضابط مخابرات خلال الانتفاضة الأولى.
 
وأشارت مواقع عبرية إلى أن له عشرات الدراسات المنشورة في صحف عبرية مثل "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" و"ميكور ريشون"، ويعمل محاضرا حول الضفة الغربية في عدد من الكليات الإسرائيلية.
 
وينشط في القرى الفلسطينية، ويحاول تزييف تاريخها الأثري، عبر ادعاء وجود ارتباطات يهودية من أجل الاستيلاء عليها، كما فعل ذلك عام 2012، حين دخل مع قوة من لواء بنيامين في جيش الاحتلال، إلى بلدة قراوة بني حسان، وصور الآثار فيها وإلقاء محاضرات في الجنود بشأن ارتباطهم المزعوم بالمنطقة.
 
وكشفت تحقيقات أولية، إنه دخل منطقة عمليات لجيش الاحتلال، وهو يرتدي زيا عسكريا ويحمل السلاح، بموافقة قائد لواء غولاني، لكنه لم يكن ضمن قوات الاحتياط، والتحقيقات جارية لكشف ملابسات دخوله، خاصة وأنها جرت بطريقة تخالف الإجراءات، ولم يحصل على الموافقات المطلوبة.
 
وأدى بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية إلى ضم ما يزيد عن حوالي 270 موقعا أثريا رئيسا، وحوالي 2000 معلم أثري وتاريخي، إلى جانب عشرات المواقع الأثرية التي دمرت في مسار الجدار.
لم تترك سلطات الاحتلال ومستوطنوها وسيلة لتزوير التاريخ ومحاولة إبراز الطابع القديم للوجود اليهودي في فلسطين إلا وسلكته، ومن ذلك سرقة الأحجار القديمة وإعادة بنائها في أماكن لليهود في أراضي 48 أو داخل المستوطنات بهدف إبراز وجود قديم مزيّف لتبرير الاستيلاء والاستيطان الحالي.
 
ويقول المفكر والكاتب الأردني إبراهيم غرايبة بأن الرواية التاريخية المتشكلة حول الدراسات التاريخية والآثارية اليوم "تنفي وجود أي مملكة إسرائيلية في فلسطين، فلم تشر المصادر التاريخية القديمة إلى مملكة أورشليم، والنتيجة التي يتبناها اليوم عدد من المؤرخين المهمين بأنه لا وجود لمملكة إسرائيل، ولا يوجد دليل على الديانة اليهودية بالوصف القائم اليوم قبل العام 135 ق.م."
 
ومع أن علماء الآثار الإسرائيليين بمختلف مسمياتهم، وعلى مدار أكثر من 130 عاما ومعهم وقبلهم علماء الآثار من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا أعلنوا فشلهم في العثور على أية آثار في أرض فلسطين التاريخية تدلل على وجودهم في فلسطين، أو وجود ما يسمى الهيكل الثالث، لكن يواصل هذا الاحتلال الذي يعادي الوعي، ويعاند التاريخ على ممارسة علمية السرقة والتزييف.
 
أراد قادة اليهود وباحثيهم اختراع شعب وتلفيق تاريخ عبر الآثار المزعومة عبر أسطورة النفي والاضطهاد ثم الخلاص والعودة بنصوص توراتية محرفة وتفسيرات تلمودية مخرفة، لكنها لم تكن مقنعة لهم ولغيرهم، فجعلوا من علم الآثار بديلا وأملا تعلقوا به، لكن أيضا ثبت فشله.
 
ويؤكد البروفسور اليهودي، شلومو زاند، أستاذ التاريخ في جامعة "تل أبيب" ومن أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" الذي صدر بالإنجليزية عام 2009 بقوله: "إن أراد اليهود البحث في تاريخهم عبر الحفريات والتنقيبات فعليهم أن يتوجهوا لروسيا، ويبحثوا في حقيقة اليهود الأشكناز وأصولهم وآثارهم هناك، آن الأوان لنقض تلك المعتقدات الشائعة بشأن التاريخ اليهودي الذي لا أساس له من الصحة".
 
وأكد عالم الآثار إسرائيل فنكلشتاين، والذي يعرف بـ"أبي الآثار"، لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية في تصريحات صحافية نشرت في عام 2011 أن علماء الآثار اليهود "لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء وانتصار يوشع بن نون على كنعان".
 
أما فيما يتعلق بهيكل سليمان المزعوم، فأكد عالم الآثار الإسرائيلي أنه "لا يوجد أي شاهد أثري يدل على أنه كان موجودا بالفعل".
 
وأكد أمين عام "اللجنة الملكية لشؤون القدس" (رسمية أردنية) عبدالله كنعان بأن التاريخ والآثار، جزء من مشروع النضال والدفاع الفلسطيني والعربي عن هويته وحقه الأصيل في أرضه ومقدساته، والتي تجمع بين الرواية التاريخية والدليل الأثري الداعم لها.
 
وأشار كنعان في تصريحات سابقة له إلى "ازدياد مخططات الصهيونية لتهويد الثقافة وسرقة التاريخ وتزويره، ونشر الرواية التلمودية والتوراتية المزيفة، ودعا إلى تكثيف العمل على مأسسة أرشيف وثائقي فلسطيني يحمي هذه الوثائق من الضياع والتهويد والإتلاف والمصادرة المتعمدة من قبل الاحتلال، ونشر الرواية التاريخية الفلسطينية والمقدسية بكافة اللغات لأهميتها".
 
لقد فضح قتل عالم الآثار الإسرائيلي إرليخ في لبنان خطط الاحتلال بشكل مبكر في نهب وتزييف التاريخ وسرقة تاريخ البلاد العربية حيث يشن الاحتلال حربا صامتة على الآثار والتاريخ العربي والإسلامي.
مهمة لم تكتمل في أن قرية شمع الصفا التي تحتضن مقام "النبي شمعون الصفا"، لإثبات بأن المنطقة هي يهودية لا مسيحية ولا إسلامية وبأن أرض لبنان بكل معالمها وآثارها هي ضمن "إسرائيل الكبرى".
تصنيفات :
مواضيع ذات صلة
قراءة في المقترح الأمريكي الجديد لوقف إطلاق النار في غزة
يوليو 3, 2025
في خضم تسريبات متزايدة حول تفاصيل الورقة الأمريكية لوقف إطلاق النار في غزة، تتحدث تقارير إعلامية عن مقترح مختلف من حيث الشكل والمضمون، تطرحه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بصيغة تحمل ملامح تحول سياسي لافت. هذه الورقة، التي يُروّج لها على أنها اتفاق متكامل يمتد لـ60 يومًا، تتضمن بنودًا غير مسبوقة، كوقف شامل لإطلاق النار،
مبادرة ترامب للتهدئة في غزة: مقترح "ملغوم" يفتقر للضمانات ويكرّس الواقع القائم
يوليو 2, 2025
أثار مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن وقف إطلاق النار في غزة لمدة 60 يوماً، والذي يتضمن ترتيبات جزئية لتبادل الأسرى وتخفيف محدود للحصار، موجة من التحفظات لدى محللين فلسطينيين وعرب، رأوا فيه طرحاً غير متوازن يفتقر إلى الضمانات الحقيقية لوقف دائم للعدوان أو لتأمين الاحتياجات الإنسانية المتفاقمة في القطاع. واعتُبر المقترح، الذي يأتي قبيل
خبراء يحذرون: الاقتصاد في مناطق السلطة الفلسطينية ينهار وديون الموظفين قنبلة موقوتة
يوليو 1, 2025
"الاقتصاد الفلسطيني يواجه كارثة مالية وديونًا متراكمة تهدد بالانهيار البنيوي" – بهذه العبارة الصادمة افتتح البنك الدولي تقريره الأخير الصادر في حزيران/يونيو 2025، ليدق ناقوس الخطر بشأن الحالة الاقتصادية والمالية في مناطق السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة. غير أن الأزمة لم تعد في خانة التحذير، بل تحوّلت إلى واقع يومي يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية،
حصيلة لبنانية.. أكثر من 3700 خرق "إسرائيلي" منذ وقف إطلاق النار و195 شهيدا
يونيو 30, 2025
أعلنت السلطات اللبنانية، الاثنين، عن حصيلة جديدة لخروقات واعتداءات جيش الاحتلال "الإسرائيلي" على الأراضي اللبنانية، منذ إعلان وقف إطلاق النار في جنوب البلاد بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. ووفق البيان الرسمي، بلغ إجمالي الخروقات التي نفذها جيش الاحتلال 3799 خرقا، توزعت بين 1701 خرق بري، و1916 خرقا جويا، و112 خرقا بحريا. كما كشفت الحصيلة عن
"طوفان الأقصى".. سيناريوهات متوقعة وغير متوقعة بعد 630 يوما
يونيو 29, 2025
تُذكّرنا الحروب الكبرى دومًا بما قاله وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت مكنمارا، في وثائقي "ضباب الحرب" إن للحروب نتائج مقصودة، وأخرى غير مقصودة قد تكون أكثر تأثيرًا وخطورة . وهذا يتقاطع ويتصادى اليوم مع ما أحدثه السابع من أكتوبر في حرب غزة. فمنذ صباح طوفان السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصبح الشرق الأوسط يسير بتوقيت
لماذا دعا ترامب إلى إلغاء محاكمة نتنياهو؟
يونيو 28, 2025
في ظل حالة الارتباك التي يعيشها كيان الاحتلال الإسرائيلي بعد أشهر من العدوان على غزة، أثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي طالب فيها بإلغاء محاكمة رئيس الوزراء في حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أو منحه عفوًا، جدلًا واسعًا واعتُبرت مؤشرًا جديدًا على تعمق الأزمة داخل الاحتلال الإسرائيلي. ورأى مراقبون أن هذه التصريحات جاءت في توقيت