التقنيات والحرب السيبرانية: سلاح الصراعات الحديثة (مقال علمي)
رائد سمور، مؤسس ومدير مركز ريفلكت لدراسات التطور التقني

عمان - قدس برس
|
ديسمبر 9, 2024 11:20 ص
شهدت الساحة الدولية تطورًا هائلًا في استخدام التقنيات الحديثة كأدوات رئيسية في النزاعات والحروب، إذ أصبحت الحرب السيبرانية ميدانًا جديدًا للصراعات بين الدول. من فك شيفرات الحرب العالمية الثانية إلى التحكم في أنظمة الاتصالات الحديثة، لعبت التقنية دورًا محوريًا في صياغة الأحداث التاريخية وإعادة تشكيل استراتيجيات الصراعات.
1. كسر شيفرة “إنجما”: النواة الأولى للحوسبة
كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول في استخدام التقنية كأداة عسكرية. خلال هذه الحرب، نجح علماء التشفير البريطانيون بقيادة “آلان تورنغ” في فك شيفرة “إنجما” الألمانية في عام 1941، بعد الاستيلاء على الغواصة الألمانية U-110. شكّل هذا الإنجاز الأساس لتطوير الحواسيب الأولى، مما أعطى الحلفاء تفوقًا استخباراتيًا حاسمًا، وأسرّع بنهاية الحرب.
2. تطور الحرب السيبرانية في العصر الحديث
فيروس “ستوكسنت” والبرنامج النووي الإيراني (2010):
في واحدة من أولى الهجمات السيبرانية الكبرى، استُخدم فيروس “ستوكسنت” لتعطيل أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية الإيرانية. أظهر هذا الهجوم قدرة التقنية على استهداف بنى تحتية معقدة بدقة غير مسبوقة.
الحرب السيبرانية الروسية ضد أوكرانيا (2022):
مع تصاعد النزاع بين روسيا وأوكرانيا، استخدمت روسيا الحرب السيبرانية لتعطيل البنية التحتية الأوكرانية. شملت الهجمات إطفاء الكهرباء عن ملايين الأوكرانيين وتشويشًا على أنظمة الاتصالات والمواقع الحكومية، مما أعاق الاستجابة الأوكرانية العسكرية والمدنية.
3. الحوادث السيبرانية الإقليمية: حادثة الطائرة الإيرانية ومطار رفيق الحريري (2024)
في 28 سبتمبر 2024، شهد مطار رفيق الحريري الدولي حادثة سيبرانية فريدة، عندما اخترقت إسرائيل منظومة الاتصالات في برج المراقبة بالمطار. وجهت إسرائيل تحذيرًا لطائرة مدنية إيرانية مهددةً بإسقاطها إذا لم تغير مسارها. أكدت هذه الحادثة كيف يمكن للهجمات السيبرانية أن تتحول إلى أدوات ضغط سياسية وعسكرية مباشرة.
• الأبعاد الإقليمية: تأتي هذه الحادثة في سياق الصراع الإسرائيلي-الإيراني، حيث تستخدم إسرائيل تقنيات سيبرانية لاستهداف أهداف إيرانية وتعطيل أنشطتها العسكرية.
• تداعياتها: سلطت الضوء على ضعف البنية التحتية السيبرانية للمطارات المدنية وضرورة تعزيز الدفاعات.
4. استخدام الحرب السيبرانية ضد "حزب الله"
أ. اعتراض وتفجير أجهزة البيجر
في التسعينيات وأوائل الألفية، استهدفت إسرائيل أجهزة البيجر التي كان يعتمد عليها حزب الله كوسيلة اتصال آمنة نسبيًا. ثم تبعتها في عام ٢٠٢٤ بعمليات نوعية حيث شملت العمليات ما يلي:
• اختراق منظومة البيجر: اعترضت إسرائيل الرسائل النصية المرسلة عبر أجهزة البيجر، وحللت محتواها للكشف عن مواقع قيادات حزب الله وخططهم العسكرية.
• تفخيخ الأجهزة: تمكنت إسرائيل من تجهيز بعض أجهزة البيجر بمتفجرات صغيرة زُرعت بعناية، بحيث تُفجر عن بُعد عند استخدامها.
• التفجير عن بُعد: استُخدمت إشارات مخصصة لتفجير الأجهزة المستهدفة، مما أسفر عن مقتل قادة ميدانيين بارزين في حزب الله.
ب. التشويش على نظام GPS
برعت إسرائيل أيضًا في التشويش على نظام GPS في منطقة الشرق الأوسط، مما أثر في العمليات اللوجستية لحزب الله، وأعاق حركته العسكرية.
5. تتبع أسامة بن لادن: دور التقنيات السيبرانية
إحدى أبرز العمليات التي أظهرت قوة التقنية في الصراعات الحديثة كانت عملية استهداف زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، في 2011.
• استخدام الطائرات بدون طيار (درون):
• اعتمدت القوات الأمريكية على طائرات الدرون لتحديد واعتراض الاتصالات اللاسلكية الموجهة من المجمع الذي كان يختبئ فيه بن لادن في أبوت آباد، باكستان.
• لعبت الدرونات دورًا رئيسيًا في مراقبة تحركات الأفراد حول المجمع والتأكد من عدم وجود اتصالات صادرة منه، مما أكد الشكوك بأنه يضم شخصية بارزة تتجنب الكشف.
• تقنيات تحديد الموقع:
• استخدمت الاستخبارات الأمريكية خوارزميات لتحليل البيانات المتعلقة بالاتصالات الملتقطة، مما أدى إلى تحديد دقيق لموقع بن لادن.
• التكامل بين التقنية والعمل الميداني:
• بعد التأكد من الموقع، شنت القوات الخاصة الأمريكية غارة ميدانية مدعومة بالتقنية المتقدمة، مما أدى إلى قتل بن لادن في 2 مايو 2011.
6. تأثير الحرب السيبرانية على الاستراتيجيات الحديثة
السيطرة على الاتصالات:
لطالما كانت السيطرة على أنظمة الاتصالات ميزة استراتيجية في الحروب. فالتشويش واختراق الشيفرات يمنح القوى القدرة على شل حركة الخصم استخباراتيًا وعسكريًا.
العمى الاستخباري:
تشكل الهجمات السيبرانية أداة فعالة لتعطيل رؤية الخصوم، حيث يُفقدهم القدرة على تقييم الوضع الميداني واتخاذ القرارات.
7. العبرة من التطور السيبراني
الحوادث المذكورة تمثل تحولًا جوهريًا في مفهوم الصراع، حيث لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لتحقيق الانتصار. أصبحت الدول تُقيم بناءً على قدراتها السيبرانية، مما يفتح بابًا للتساؤل عن دور التقنية في الحروب القادمة.
الخاتمة
من فك شيفرة “إنجما” إلى تتبع أسامة بن لادن باستخدام الدرون، مرورًا بفيروس “ستوكسنت” وحادثة الطائرة الإيرانية، يتضح أن الحرب السيبرانية ليست مجرد أدوات دعم للصراعات التقليدية، بل أصبحت سلاحًا مستقلًا يحدد مسار الحروب. في عالم أصبح فيه التفوق التقني مرادفًا للسيادة السياسية والعسكرية، فإن السباق نحو الابتكار السيبراني هو السبيل الوحيد للبقاء في دائرة القوة.
تصنيفات : الخبر وأكثر منوعات