أولُ "دولة مستوطنات"... فلنشاهد

يهطل الليل ... وعلى تلّة مُطلّةٍ على أول مستوطنة بَـنَـتها "العصابات الصهيونية"، يقف الحاج خليل، ابن الثمانين، وبعينين مغرورقتين بالوجع ... يحدّق في الأفق ... يشير بعكّازه بيد مرتجفة تهزّها الذكريات، يهمس: "مكان هذه الكرفانات المضيئة وتلك الأسلاك الشائكة ... هناك ... كانت لنا بيّارة برتقال وبيت عائلتنا وكل ذكرياتنا"، مضيفا "اعتبر الاحتلال كل ذلك (أملاك غائبين) ... مع أننا لا زلنا هنا ... تحوَّل كل المكان لمستوطَنة لا أعرف اسمها... سكنت مكاننا...".
في كل صباح، يحتاج المدرّس أحمد ـ ليصل من حاجز "قلنديا" في مدينة القدس المحتلة إلى مدرسته في رام الله وسط الضفة الغربية ـ ساعتين وثلاثة أرباع القهر، في حين تمرّ سيارات المستوطنين ذات اللوحات الصفراء في ربع ساعة، ويصلون إلى مستوطنات حديثة، أنيقة، مكيّفة.
كاميرات الإعلام ترصد نمو "دولة مستوطنات" تشقّ الأرض مثل فِطرٍ سامّ ... سريع النمو... يسقى بماء مسروق ..... كل بيت فيها ينبت من فلقتي : الاحتلال والإحلال... يستمر تسمين هذه المستوطنات ...تُحرس ببندقية تمتد عبر النجمة السداسية... وتُرقى بنصوص الحاخامات.
تستمر شهية الجرافات الإسرائيلية بغرز أنيابها في أراضي الفلسطينيين بجرعة زائدة من العجرفة والنكاية ... تبدأ بالضم اللا قانوني والقضم الهمجي وتنتهي بفرض أمر واقع يمنع قيام دولة فلسطينية متواصلة التضاريس.
أضواء "دولة المستوطنات" لا تنطفئ ...تخاف ألا تكون مشروعا دائما .... كل مستوطن فيها بلطجِيٌ في عصابة مسلحة يحرسها جيش وقرارات أمم تراها بعين الحقيقة العوراء
نصف الحقيقة أرقام:
تشير تقارير متطابقة إلى أن عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية يقترب من المليون ، في مئتين وثمانين مستوطنة ... والأرقام لا تروي كل الحكاية. فليس على وجه الأرض "دولة مستوطنات" تعيش مكان "دولةٍ قيدَ الاعتراف" في "دولة سريعة الذوبان" تخنقها حواجز وجدران وطرق التفافية، ونقاط تفتيش تغرس نفسها، كأوتاد مدبّبة تحت أقدام الفلسطينيين.
اغتيال "حل الدولتين":
تغتال "دولة المستوطنات" فكرة حل الدولتين... يسمّون الضفة الغربية اسما توراتيا: يهودا والسامرة... وزيرهم التلمودي المتطرف إيتمار بن غفير يصرّح: "حان الوقت لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على يهودا والسامرة" دا على أنه "نحن لا نوسّع المستوطنات، نحن نؤسّس لسيادة" ... أما وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، تصرّح وتصرخ: "لا يوجد شعب فلسطيني"، وهذه كلمات ليست عابرة بل أقوال، حيث جرّافاتهم وقراراتهم تحوّل البؤر العشوائية إلى مستوطنات ومجتمعات معترف بها في الكنيسيت وفي محكمة (العدل) العليا الإسرائيلية.
يضربون كل قرارات الأمم بحائط مجلس الأمن... حيث يكشف تقرير منظمة "بيتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية أن سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية "تسعى لخلق واقع لا رجعة فيه"... يحاول المستوطنون الاقتراب من خط النهاية باقتحام المسجد الأقصى... ثم تحقيق حلمهم الأكبر بتهويده... لتغفو المستوطنات وتصحو على حلم الدولة العبرية.
سبع وسبعون عاما وفتاوي اتفاقية جنيف تـُحرّم بناء المستوطنات ... سبع وسبعون عاما والمجتمع الدولي لا زال يحاول توقيف التوسع الاستيطاني فقط بـ "القلق العميق"...سبع وسبعون عاما والصهاينة يبعثرون خارطة الشرق الأوسط ويسعون لمكان أكبر وأكبر تحت الشمس... سبع وسبعون عاما والاستيطان يتسارع كقطار فقد فرامله... ولا زال جرس الإنذار يقرع النداء الأخير... فهل نشاهدُ أولَ "دولة مستوطنات"؟!.