77 عامًا على النكبة: الذاكرة حيّة.. والصوت الشبابي يرفض النسيان

رغم مرور 77 عامًا على نكبة الشعب الفلسطيني، إلا أن وجعها لا يزال حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية للاجئين، ويشكّل جزءًا لا يتجزأ من وعيهم وهويتهم.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الاحتلال الإسرائيلي ترسيخ النسيان، ينبري جيلٌ فلسطينيٌ شابٌّ ليقول كلمته، ويؤكد أن النكبة لم تكن لحظةً في التاريخ، بل واقع مستمر، ومعركة وعي وصمود متواصلة.
وفي هذا السياق، عبّر ناشطون فلسطينيون في الشتات، في أحاديث منفصلة لـ"قدس برس" اليوم الخميس، عن رؤيتهم للنكبة، وحق العودة، والواقع الراهن الذي تعيشه فلسطين، لا سيما في ظل العدوان المتواصل على قطاع غزة، معتبرين أن ما بعد 7 أكتوبر شكّل نقطة تحوّل في وجدان اللاجئ الفلسطيني، وفي مسار النضال من أجل العودة والتحرير.
وقال الناشط الشبابي والصحفي الفلسطيني، محمد فرهود، من مخيم "عين الحلوة" للاجئين الفلسطينيين في مدينة صيدا جنوب لبنان، إنّ "كلمة (النكبة) لم تكن مجرد تاريخ مرّ عليه الزمن، بل كانت المفتاح الأول لرحلة البحث عن الهوية"، مشيرًا إلى أن "أسئلته الكبرى عن معنى اللجوء بدأت من هذه الكلمة".
وأضاف "تربّينا على كلمة نكبة، ومنها بدأت أتساءل: من أنا؟ لماذا أعيش في مخيم داخل لبنان؟ ولماذا أحمل صفة لاجئ؟"، مؤكدًا أنّ "فهمه للنكبة شكّل القاعدة التي بنى عليها وعيه وهويته الوطنية".
وأوضح أنّ "معرفة ما حدث في 15 أيار/مايو 1948 كانت ضرورية بالنسبة له ليُدرك لماذا هو لاجئ"، معتبرًا أن "النكبة جزء أساسي من تعريفه لنفسه وهويته كفلسطيني".
وأشار إلى أن "التحول الكبير في وعيه جاء بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث رأى بأمّ عينيه المجازر التي ارتكبها الاحتلال في غزة، والتي كانت تُروى له سابقًا على لسان أهله".
وقال: "كنت دائمًا أسأل لماذا خرجوا من قراهم؟ لماذا لم يبقوا ويموتوا هناك؟ اليوم، رأيت الجواب في غزة، في مشاهد القصف والإبادة والدمار".
وأكد أنّ تجربته الشخصية مع النكبة بدأت منذ الطفولة، حيث كان جدّ والده على قيد الحياة، ونقل إليه تفاصيل دقيقة عن قريته والبلد وما حدث عام 1948، مضيفًا أنّ "هذه الرواية الشفويّة شكلت جزءًا أصيلًا من ذاكرته وهويته".
ورأى أنّ الفرق الجوهري بين ما قبل 7 أكتوبر وما بعده، يكمن في التحول من "حلم العودة" إلى "حق العودة"، بل إلى "هدف العودة"، وقال: "ما جرى في 7 أكتوبر جدّد الأمل فينا، وأثبت أن القضية ما زالت حية، وهناك من يحملها رغم كل التخاذل والتطبيع ومحاولات الإلهاء بمشكلات المخيمات".
ولفت إلى أنّ "7 أكتوبر قلب الطاولة على كل المؤامرات، وأعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وحوّل العودة من مجرد شعار إلى بوصلة وهدف"، مشددًا على أن "البندقية اليوم أصبحت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في ظل سقوط المشاريع السياسية".
وأكّد أن "النكبة لم تتوقف يومًا، بل ما زالت مستمرة في أشكال متعددة من القمع والاستيطان والتهجير".
وقال: نحن نتابع يوميًا ما يجري في غزة والضفة والقدس والداخل الفلسطيني، من هدم منازل، وبناء مستوطنات، واعتقالات إدارية".
وتحدث فرهود عن واقع المخيم، قائلًا إن "كل تفصيل فيه يذكّره بأنه لاجئ؛ من الحواجز، إلى مؤسسات وكالة (أونروا)، إلى الجدار المحيط بالمخيم، وحتى الهوية الزرقاء التي نحملها يوميًا… كلها شواهد على واقعنا كلاجئين".
وأوضح أن "لهجة اللاجئ الفلسطيني في لبنان، والتي تمزج بين الفلسطينية واللبنانية، هي أيضًا انعكاس لحالة الشتات، ونتيجة لسنوات من التهجير ومحاولات الحفاظ على الهوية".
وختم حديثه بالتأكيد على "ضرورة بناء جيل فلسطيني جديد، أكثر وعيًا وتمسكًا بالقضية، ويجب أن نُنشئ جيلًا لا ينتظر المعلومة، بل يسعى إليها، ويكون هدفه واضحًا؛ و ما حدث في 7 أكتوبر حرّك هذا الوعي، وعلينا أن نستثمره في صناعة جيل يحمل القضية كهوية ونضال".
النكبة فصلتنا عن وطننا جغرافيًا… لكنها بقيت تسكننا كهوية ونضال
بدوره، قال الناشط الشبابي والصحفي الفلسطيني، كمال الجعبري، من الأردن، إن "ذكرى النكبة تمثّل بالنسبة لي اللحظة التي انقطعت فيها الصلة الجغرافية بين الفلسطينيين ووطنهم، وأن فلسطين التي كانت مفتوحة أمام أهلها وكل العرب والمسلمين، باتت اليوم حلمًا بعيد المنال لا يظهر إلا من خلف جبال وتلال الأردن".
وأشار إلى أن النكبة لا تعني فقط التهجير، بل تختزن في طياتها ذاكرة الصمود والتصدي، مستعيدًا من أرشيف العائلة روايات عن مشاركات حقيقية في معارك الدفاع عن فلسطين، حيث أُصيب جدّه في معركة "كفار عتصيون"، واستُشهد ابن عمّته في المواجهات.
كما روى كيف شهدت جدّته عمليات نزع سلاح الفلسطينيين، تحت ذريعة أن "آخرين سيقاتلون عنهم"، معتبرًا أن "هذا المشهد لا يزال حاضرًا في الذاكرة الجماعية".
وأكّد أن "النكبة كانت ولا تزال شاهدة على وحدة الدم العربي، إذ اختلط فيها الدم الفلسطيني بالدم الأردني والسوري واللبناني وحتى البوسني، في مشهد نادر لوحدة الشعوب من أجل قضية واحدة".
وأضاف: "النكبة ليست حدثًا واحدًا، بل مئات المشاهد المتناقضة من الأمل والانكسار، من البطولة والخذلان، من الشهادة والتجريد".
وفي قراءته لواقع اليوم، رأى أن النكبة للأسف ما زالت مستمرة، ليس فقط بسبب العدوان المستمر، بل نتيجة ما وصفه بـ"تفكك الشعب الفلسطيني".
وقال "نرى أهلنا في غزة والضفة ولبنان يُستشهدون تحت نيران الاحتلال، فيما يقف ملايين الفلسطينيين حول العالم في موقع المتفرج".
وأضاف: "النكبة الحقيقية هي هذا التشظي الذي أصاب شعبنا، والتقسيم بين فلسطينيي غزة، والضفة، ولبنان، والأردن، وسواهم، ومحاولة إذابتهم في همومهم اليومية كي ينسوا أرضهم وهويتهم".
وشدد على أن "حق العودة حق واضح كالشمس، لا يقتصر على كونه حقًا دينيًا وإنسانيًا، بل هو أيضًا حق قومي ووطني مكفول بالمواثيق الدولية"، مؤكداً أن "هذا الحق سيبقى حيًا في قلوب الفلسطينيين؛ حلمًا غير مستحيل ننتظره بإيمان وإرادة".
وحذر من التهديدات التي تطال هذا الحق، معتبرًا أن "أكبر خطر عليه هو مخططات تصفية القضية الفلسطينية من جذورها.
وأشار إلى أن "هذه المخططات تتجلّى في محاولات تهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة ولبنان، وتغيير التركيبة الديمغرافية للمخيمات، إضافة إلى مشاريع نزع السلاح، وتهميش العمل الشعبي، واستهداف فصائل المقاومة في سوريا".
وختم حديثه بالتأكيد على أن "المعركة من أجل حق العودة ليست فقط على الحدود، بل أيضًا في الوعي، وفي مواجهة محاولات الإنهاك والتذويب التي تستهدف الفلسطيني أينما كان".
العودة ليست وعدًا… العودة قرار
وفي السياق، قال الناشط الشبابي الفلسطيني من مخيم "الحسينية" جنوب العاصمة السورية دمشق، محمد علي، إن "النكبة بالنسبة لي ليست مجرد ذكرى من الماضي، بل واقع يومي يعيشه الشعب الفلسطيني بكل تفاصيله".
وأكد أن "الفلسطينيين وإن لم يعيشوا لحظة التهجير في عام 1948، فإنهم يعيشون آثارها وتبعاتها حتى اليوم، وأن الوجع الذي خلفته النكبة لم يسمح لأيٍّ منا أن يعيش حياة طبيعية".
وأشار إلى أنه يؤمن بحق العودة بكل قناعة، ليس فقط لأنه حلم يراود الأجيال، بل لأنه حق مشروع، ومضمون بوعد إلهي بتحرير فلسطين، قائلاً: "العودة ليست وعدًا، العودة قرار".
و رأى أن "ما يحدث اليوم في قطاع غزة هو النكبة بصورتها الحديثة، وأن الاحتلال لم يعد يهجرنا مرة واحدة فقط، بل يكرر النكبة يوميًا، لا عبر احتلال القرى، بل من خلال قصف المخيمات والتجمّعات والمناطق السكنية بأكملها".
وأضاف أن أكثر ما يذكّره يوميًا بكونه لاجئًا، هو الحارات الضيقة، والبيوت المتلاصقة، وتلك العبارة المكتوبة على هويته: "تذكرة إقامة مؤقتة للفلسطينيين"، مؤكدًا أن "تفاصيل الحياة في المخيمات لا تسمح بنسيان النكبة".
وختم الناشط بقوله إن "على جيل الشباب الفلسطيني تحويل وجع النكبة إلى طاقة خلاقة، علينا أن نوثق الحكاية، نكتب، نرسم، نغني، نصنع الأفلام، وننشر قصتنا بكل لغة ممكنة؛ الذاكرة ليست مجرد شيء نحتفظ به، بل يجب أن نعيشها ونحملها كما نحمل أسماءنا".
ما نعيشه اليوم هو امتداد لنكبة 1948… وحق العودة لا يسقط بالتقادم
من جهته، قال الناشط الشبابي الفلسطيني من الأردن والمقيم في قطر حالياً، معاذ نزّال، إنّ"كلمة النكبة لم تعد مجرد مصطلح تاريخي يُستعاد في ذكرى سنوية، بل أصبحت تعبيرًا يوميًا عن واقع يعيشه الفلسطيني منذ العام 1948".
وأضاف أن "ما جرى عام 1948 هو تهجير قسري للفلسطينيين من أرضهم دون وجه حق، وهو الجرح الذي ما زال نازفًا حتى اليوم، رغم مرور أكثر من سبعة عقود".
وأشار إلى أنه وإن لم يشهد النكبة شخصيًا، إلا أنه عاشها وجدانيًا من خلال ما نقله إليه الأهل والتربية التي نشأ عليها، إلى جانب الإعلام، والأنشطة المدرسية، وكل الوسائل التي رسخت في وجدانه أن النكبة لم تنتهِ، بل ما زالت مستمرة.
وأوضح أن "يوم النكبة محفور في ذاكرة كل فلسطيني، وهو حدث لا يخص جيلًا دون غيره، بل أثّر في كل فرد من أبناء الشعب، وساهم في تشكيل وعيهم وهويتهم الوطنية".
وفي ما يتعلق بحق العودة، شدّد على أنه "حق راسخ لا يمكن التنازل عنه"، مؤكدًا أن "هذا الحق مؤمَن به إيمانًا عميقًا، ومهما تأخرت العودة، لن يستطيع أحد أن ينزع هويتنا أو يمنعنا من العودة إلى بلادنا".
وأضاف أن "هذا الحق كفلته الشرائع الدولية، وكل الأديان السماوية، وأنه لا يجوز حرمان شعب من أرضه ووطنه لمجرد أنه ضعيف أو مشتت".
ورأى أن "الدفاع عن حق العودة يجب أن يتم عبر كل الوسائل المتاحة، وأن علينا أن نخوض هذه المعركة بكل أدوات القوة: العسكرية، السياسية، الإعلامية، والثقافية، فهذا دور كل فلسطيني في الشتات والداخل على حد سواء".
وأكد أن "ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو الشتات، هو نتيجة مباشرة لنكبة 1948، وأن التدمير والقتل والتهجير المستمر الذي نشهده، هو الثمن الذي ندفعه نتيجة تلك الكارثة".
ورغم كل ذلك، أشار إلى أن "الفلسطيني ما زال متمسكًا بأرضه، صابرًا، ومقاتلًا في وجه الاحتلال، مؤمنًا بأن النصر والعودة قادمان، مهما طال الزمن".
وما بين مخيمات اللجوء وذاكرة المجازر، وبين الأمل المتجدد بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وواقع العدوان الشتات، يقف الشباب الفلسطيني ليعلن أن النكبة لم تنتهِ، لكنها أيضًا لم تهزمهم؛ فهم يحملونها في وجدانهم لا بوصفها جرحًا، بل بوصفها قضية حيّة، ومسؤولية يومية، وقرارًا ثابتًا بالعودة مهما طال الزمان.