بين التصعيد والمراوغة.. هل تُغرق "عربات جدعون" الاحتلال في مستنقع جديد؟

رغم إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي إطلاق عملية جديدة تحت مسمى "عربات جدعون"، إلا أن مؤشرات الميدان تفصح عن واقع مختلف؛ فلا تقدم بري واسع، ولا تغيير استراتيجي حقيقي، بل قصف جوي مكثف ومناورات محدودة تحت مظلة "المرحلة التحضيرية".
وبينما يصعّد الاحتلال نيرانه في شمال ووسط قطاع غزة، تتكشّف أبعاد سياسية وعسكرية أعمق تحكم إيقاع هذه العملية، التي تبدو حتى اللحظة أشبه بمحاولة ضغط ومراوغة أكثر منها اندفاعة عسكرية حاسمة.
في هذا السياق، يتقاطع التحليل العسكري مع الرؤية السياسية لتفسير أبعاد هذه المناورة؛ فمن جهة، يعاني جيش الاحتلال من أزمة تجنيد ونقص في القوى البشرية، ومن جهة أخرى، يسعى قادته إلى توظيف التصعيد العسكري كورقة في مفاوضات متعثرة.
فهل "عربات جدعون" مجرد غطاء ناري لتحصيل مكاسب على طاولة التفاوض؟ أم مقدمة لتصعيد ميداني أوسع يحمل مخاطره الكارثية على الجانبين؟
مناورة محدودة
في هذا السياق، قال الخبير العسكري والاستراتيجي الأردني نضال أبو زيد، إن "إعلان الاحتلال عن بدء عملية (عربات جدعون)، سيئة الصيت، لا يعكس واقع الميدان"، مؤكدًا أن "كل ما يجري حتى الآن يندرج ضمن المرحلة التحضيرية، المتمثلة في القصف الجوي والتدمير، دون وجود مؤشرات واضحة على تقدم بري فعلي".
وأضاف أبو زيد، في حديثه لـ"قدس برس"، أن "تركيز القصف على مناطق بعينها في شمال القطاع، مثل بيت حانون وتل الزعتر، إضافة إلى مناطق وسط القطاع جنوب شرق دير البلح، مثل أبو العجين والجعفراوي، يشير إلى نية الاحتلال فتح ثلاثة محاور للتقدم البري: الأول من الشمال نحو بيت حانون، والثاني من الشمال الشرقي باتجاه تل الزعتر، والثالث من محور الوسط عبر كيسوفيم باتجاه دير البلح".
وأشار إلى أن "خطة الاحتلال في مرحلتها الأولى تستهدف تهجير سكان غزة بشكل كامل إلى جنوب محور موراغ، وهو ما يعني حشر نحو مليونين ونصف مليون إنسان في خمس مساحة القطاع فقط، في ظل ظروف إنسانية متدهورة".
وأوضح أبو زيد، وهو خبير عسكري واستراتيجي أردني، أن "التقديرات العسكرية تشير إلى أن الاحتلال لا يرغب في خوض عملية هجومية واسعة النطاق، نظرًا للتكاليف الباهظة التي قد تترتب عليها".
وأضاف، أن "الجيش الإسرائيلي يعاني من نقص كبير في القوى البشرية، ومشكلة في تجنيد الاحتياط، وهو ما دفعه إلى سحب وحدات نظامية من جبهات أخرى، مثل لواء ناحال من الضفة الغربية، ولواء المظليين من الجولان، واستبدالهما بوحدات احتياط تم تجميعها مؤخرًا".
وأكد أبو زيد أن "ما يجري على الأرض يعكس محاولة الاحتلال المناورة باستخدام كثافة نارية هائلة، دون التورط في معركة برية شاملة"، مشيرًا إلى أن "تمسك الاحتلال ببقاء وفده التفاوضي في الدوحة حتى مساء الخميس يهدف إلى الضغط على المقاومة لدفعها لتقديم تنازلات في مفاوضات لا تلوح في الأفق أي بوادر انفراج لها حتى الآن".
ضغط سياسي
من جانبه، قال المحلل السياسي إياد القرا، إن "عربات جدعون تمثل واحدة من العمليات العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضمن عدوانها المستمر على قطاع غزة"، مشيرًا إلى أن "تسميات العمليات تختلف من حين لآخر، فمرة أُطلق عليها (السيوف)، ومرة (الجنرالات)، وأخرى (الفقاعات الإنسانية) أو (الحسم)، وغيرها من التسميات".
وأضاف في حديث لـ"قدس برس"، أن ما يميز "عربات جدعون" هذه المرة هو "ارتباطها الواضح بالتحركات السياسية، إذ تعكس ما يطالب به الجيش الإسرائيلي والمتطرفون من ضرورة التوغل في بعض مناطق القطاع والبقاء فيها، خلافًا لما حدث في اجتياحات سابقة مثل خانيونس ورفح وشمال غزة".
وأشار القرا إلى أن "الاحتلال يدرك صعوبة البقاء الطويل في هذه المناطق"، موضحًا أن "قواته رغم بقائها حتى الآن في رفح، إلا أنها تتعرض لهجمات متواصلة. أما في خانيونس، فقد مكث الاحتلال هناك خمسة أشهر قبل أن يضطر للانسحاب ويعيد التوغل مرة أخرى".
وتابع: "في شمال قطاع غزة، دخل الاحتلال منذ ثلاثة أشهر، ثم أعاد الدخول لاحقًا لأربعة أشهر ضمن ما يُعرف بخطة الجنرالات"، مبينًا أن "الجيش لا يتبنى خيار البقاء الطويل في غزة لأسباب سياسية، ولإدراكه صعوبة السيطرة العسكرية على القطاع لفترة ممتدة".
ولفت إلى أن "ما يجري حاليًا هو نوع من الاستعداد اللوجستي والنفسي، يتبعه توغل محدود في مناطق (بينية) داخل القطاع"، مشددًا على أن "الهدف من ذلك هو الضغط السياسي أكثر من الميداني".
وأوضح المحلل السياسي الفلسطيني أن "المناطق التي يتواجد فيها الاحتلال حاليًا تشمل محاور مثل نتساريم، وكوسوفيم، والمنطقة الواقعة بين خان يونس ودير البلح، وكذلك محور صوفا ومراج بين رفح وخان يونس".
وفيما يتعلق بالجانب الإنساني، أكد القرا صعوبة تنفيذ خطة تهجير واسعة النطاق كما يخطط لها الاحتلال، وقال: "نتحدث عن مناطق ذات كثافة سكانية عالية مثل خان يونس، التي يقطنها ما بين 800 ألف إلى مليون مواطن، ومن غير الممكن نقل هذا العدد إلى رفح".
وأضاف أن "وسط القطاع، وكذلك مدينة غزة والشمال، تضم أيضًا مليون نسمة تقريبًا، وهو ما يجعل عمليات النقل الجماعي مستحيلة"، مؤكدًا أن "الاحتلال لم يتمكن سوى من تحريك 300 ألف إلى 400 ألف مواطن من شمال القطاع، فيما لا تزال هناك مئات الآلاف في مناطق مثل جباليا والمناطق المحيطة بها".
وبيّن القرا أن "تجربة الشهور الماضية أظهرت أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على السيطرة الكاملة على كل هذه المحاور دفعة واحدة".
وفيما يتعلق بإمكانية تنفيذ خطة "عربة جدعون"، تساءل القرا: "هل يمكن أن يُقدِم الاحتلال فعليًا على ذلك؟"، مشيرًا إلى أن "إسرائيل تحاول إطالة أمد الحديث عن الخطة كوسيلة ضغط سياسي، وسط تصريحات واضحة تدعم هذا الاتجاه".
وأكد أن "المؤشرات الحالية تدل على أن الاحتلال سيلجأ إلى تصعيد ناري كبير"، مضيفًا: "خلال الأيام الأخيرة، شهدنا قصفًا عنيفًا على خانيونس وغزة، حيث سقط ما يقارب خمسين شهيدًا في كل منهما خلال ليلة واحدة".
واعتبر أن "الأعداد المهولة من الشهداء، والتي قد تصل إلى مئة شهيد يوميًا، تعكس حجم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، حتى وإن لم تنفذ الخطة رسميًا".
وختم القرا بالقول، إن "تصعيد الاحتلال بهذا الشكل سيفتح الباب أمام ردود فعل دولية، خاصة في ظل التحرك الغربي المتزايد ضد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة".