في غزة.. الموت يفيض وبيوت العزاء تبهت

637 يوماً، وما يزال الموت يطرق أبواب الغزيين دون رأفةٍ بقلوب أنهكها الفقد، وذابت أرواحها من لوعة الفراق. هنا، في كل زاوية احتضنت شهيداً، لم يعد هناك متّسع في المقابر لتضم المزيد، في ظل استمرار آلة الاستهداف وتفنّن جيش الاحتلال في طرق قتل الغزيين.
لا وقت هنا لتقبّل العزاء، فما إن تُستكمَل إجراءات دفن الشهيد المحمول على أكتاف ذويه ويُوارى الثرى، حتى يتوجّه المشيّعون لتشييع شهيد ثانٍ وثالث وعاشر. هكذا أضحت غزة مدينةً بموتٍ كثير ومآتم مؤجَّلة.
في إحدى غرف بيتها المتهالك، تجلس السبعينية علياء الفحام لتتلقّى العزاء بابنها وعائلته بأكملها. لكنها لا تلوم أقاربها أو جيران عمرها الذين لم يتمكنوا من مواساتها في هذه الفاجعة. تدرك جيداً أن هذه الحرب لم تترك عائلة إلا وأفقدتها حبيباً. لا تعاتب أحداً، بل تردد: "الكل ذاق الفقد، ربنا يصبّر كل واحد على حِمله ووجعه".
لم تكن فاجعة الحاجة الفحام بسيطة؛ فقد سبق أن فقدت زوجها في مقتبل عمرها، وها هي الآن، وهي على مشارف السبعينيات، تكتوي بنار فراق ابنها وعائلته بأكملها. لم تجد وقتاً لتفكّر بمن جاء لمواساتها ومن لم يأتِ.
تقول: "كل بيت وخيمة في غزة فيه شهيد. ما حد بعتب على حد، ولا بزعل من حد، الله يكون بعون الناس. احنا مش في رفاهية عمل مآتم واستقبال معزّيين".
وتتساءل: "مَنْ مِنْ غزة لم يطرق الموت بابه؟! كلنا نفس الوجع ونفس القهر، باختلاف الفقيد، سواء كان ابناً أو أباً أو أماً أو زوجاً أو عائلة بأكملها. هذه المصائب أزالت كثيراً من العادات التي كانت سائدة قبل الحرب، ومنها أداء واجب العزاء".
وتتابع حديثها لـ "قدس برس": "أتذكر يوم وفاة زوجي، لم يتركني الجيران والأهل والأصدقاء لعشرة أيام، ظل منزلنا يعجّ بالمحبين والمواسِين. أما الآن، ومع هذه الفاجعة، لم نفتح بيت عزاء. الوضع لا يسمح، والجميع منشغلٌ بفقده ووجعه".
وتشير إلى أن بيوت العزاء في غزة تؤجَّل إلى حين الإعلان عن تهدئة، حيث يتجمّع الأحبة والجيران ويبدأون بزيارات جماعية لذوي الشهداء لتطبيب جراحهم.
ولا يختلف الحال كثيراً في خيمة المواطن إياد عسلية، الذي استقبل عدداً قليلاً من المعزّين باستشهاد نجله البكر، على "دوار الأندونيسي"، حيث كان ينتظر دخول شاحنات الدقيق ليحظى بكيسٍ منها لعائلته، التي لم تتذوّق طعم الخبز منذ أيام.
يقول عسلية: "صحيح أنني لم أعتب على أحد بسبب ظروف الحرب، لكني أشعر بقهر كبير لغياب الأحبة عن أداء واجب العزاء. ومع ذلك، لا أستطيع أن ألوم أحداً، فالجميع مبتلى ويعاني الألم".
ويضيف لـ "قدس برس": "لم يكن بيت العزاء كبيراً، واقتصر فقط على العائلة. الوضع العام لا يسمح بإقامة بيوت عزاء كما في السابق. لا أمان مع الاحتلال، فقد يستهدف بيوت العزاء، وقد فعلها سابقاً في بيت لاهيا".
ويؤكد أن "صدمة الفقد تُنسيك التدقيق في عيون القادمين لتعزيتك، فلا تنتبه لمن جاء ومن لم يأتِ".
ويتابع: "كان الله في عون الناس، الجميع مبتلى وينزف حبيباً. هذه الحرب غيّرت كثيراً من عادات وتقاليد أهل غزة. بات الحفاظ على حياة من تبقى أولوية، وطالما أن الاحتلال يستهدف تجمعات المواطنين، فإن الغالبية من ذوي الشهداء يُعلنون عن عدم فتح بيوت عزاء".
ومع اكتظاظ الأماكن بالشهداء، إلا أن تشرد العائلات، وانتشار المخيمات والنازحين، فضلاً عن هدم الاحتلال لغالبية الأحياء والمنازل، جعل من المستحيل إقامة المآتم كما كانت قبل الحرب، واختفى أي معلم لبيوت العزاء.
وما يزال ما يقارب الـ 11 ألف مفقود، لم تُقَم لهم بيوت عزاء، ولم يُودَّعوا من ذويهم، إما لأنهم ما زالوا تحت أنقاض المباني التي قصفها الاحتلال، أو لأن مصيرهم غير معلوم منذ فقدان أثرهم.
ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تشنّ "إسرائيل"، بدعم أميركي، هجوماً واسع النطاق على قطاع غزة، استُشهد خلاله نحو 191 ألف فلسطيني وأصيب الآلاف، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب مئات آلاف النازحين، ومجاعة حادّة أودت بحياة العديد، وسط دمار غير مسبوق، رغم المناشدات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العدوان.