"آية".. فلسطينية لم يتوقف إبداعها عند ريشة الرسم

تقترب من جارورها الصغير عند إحدى زوايا بيتها، تقف هُنيْهة تحكّ رأسها وتقول في بالها “ما الذي أُريده”، ثم تقع عينيها على المطلوب تحمله فتجرّبه، فهي لا تقبل الخطأ البتّة في أي شيء تقوم به، ثم تجلس على كرسيّها واضعة يدها بإحكام حول قطعتها، وبأناملها الذهبية تبدأ بالعمل المبدع المُتقن، وتسافر في فضائها الخاص.

يسود الهدوء في المكان، وتبدأ “آية” بالاندماج في خيالها، تقترب منها “جنى” ابنتها الصغيرة (3 سنوات) تحمل دفترها وألوانها وبهدوء تام تسحب كرسيّها وتبدأ بالرسم هي أيضاً.

آية مصطفى ديب خليل (38 عاماً) مثال للشابة الطموحة التي لا ترضخ للأمر الواقع، تحاول بموهبتها وإبداعها أن تُنشئ لها عالمها، وليس بالضرورة أن يكون لديها مرسم فاخر بأثاث باهر وبأدوات ذهبية كي تُبدع، فالموهبة “ربّانية” أُعطيت لمن يستحقّها واستطاع أن يخلقَ من خلالها شيئاً جميلاً يَسعد به الآخرون.

حياتها .. 

والدا “آية” هاجرا من فلسطين المحتلة عام 1948، وتحديداً من قرية “الشيخ داود” والتي تسمى الآن “دنون” التي تقع شمال مدينة عكا المحتلة، والتحق والدها مصطفى ديب في العمل المسلّح، وكان قائد الكفاح المسلّح الفلسطيني في الساحة اللبنانية، ثم اعتُقل عام 1982 في سوريا، وحكم عليه بالسجن 22 عاماً، أمّا والدتها فأصلها من قطاع غزة.

كانت حياتهم صعبة أثناء اعتقال والدهم وبعيداً عن الوطن، حيث تنقّلوا ما بين لبنان واليمن، بعد ذلك استقرّت العائلة في الأردن لفترة طويلة، حتى تمكّنوا من دخول غزة بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1995، حيث طلبت “آية” الالتحاق بإحدى جامعات الوطن في الضفة الغربية، فتمكّنت من ذلك، والتحقت بكلية الصحافة والإعلام عام 1995 -1996. 

“آية” حاصلة على شهادة البكالوريوس في الصحافة والإعلام عام 2000 والماجستير في الدراسات الدولية عام 2002 من جامعة بيرزيت، تعيش في القدس منذ أن التقت شريك عمرها “زكريا” في مدينة رام الله، فتزوّجا، وبنيا لنفسيهما أسرة تتكون من ثلاثة أطفال هم عبد الرحمن (9 سنوات) وعمر (6 سنوات) وجنى الصغيرة، عملت في عدّة مجالات في التعليم والعمل المجتمعي والصحافة والإعلام لكنّها لم تجد نفسها في كل هذا.

بداية الحكاية .. 

تقول آية لـ”قدس برس”، في يوم من الأيّام توجهت مع شقيقة زوجي إلى أحد محال بيع اللوحات، وهناك بدأت عيني تعشق كلّ ما يناسب منزلي من ألوان وأحجام وبالتأكيد الإبداع أيضاً، أثناء ذلك قالت لي شقيقة زكريا “أنت مبدعة، لماذا تريدين شراء اللوحات، وقد تقومين بعملها بنفسك”، حينها خرجت من المحل دون شراء أي لوحة، ودارت الفكرة في خيالي خاصة أنني أحب إضافة لمستي الخاصة في أعمالي، وحصل ذلك بالتزامن مع حرب غزة الأخيرة عام 2014.

وتضيف: “كنت أجلس الليل بطوله قلقة على أخي وأختي اللذيْن يعيشان في القطاع، لم يكن النوم رفيقي، بل بقي القلق يؤرّقني فقلبي معهم، ومن كثرة المتابعات الإخبارية، قرّرت أن أفرّغ كل مشاعري السيّئة التي تلتفّ حولي من قلق وخوف بشيء أحبّه، وفي الحقيقة الشيء الوحيد الذي أحبّه هو الفن، سواء كان الرسم على الزجاج، أو الرسم بألوان الماء والزيت، أيّ شيء يُمكنني أن أعمل منه تحفة فنيّة ببعض المواد البسيطة، ومعظمها كان له رسالة خاصة، إمّا وطنية أو أدبية أو فنيّة”.

المعرض الأول .. 

كان المعرض الأول بالنسبة لي رغم فشله، وأنا أعترف بذلك، في إحدى مدارس القدس، حينها استفسرت ووضّحت ما أريد عرضه من تحف ولوحات وقطع، لكن تم بيع قطع قليلة، للأسف أنّ الناس لا تقدّر الجهد والوقت الذي يحتاجه المرء كي يصنع تلك القطع ويُخرجها بهذا الشكل الأنيق والفنيّ، مشيرة إلى أن أي أحد في البلاد على استعداد لشراء قطعة ولو كانت صغيرة بمبلغ باهظ لمجرّد علمه بأنّها مستوردة من الخارج، لكنهم لا يضعون نصف المبلغ لابن بلدهم المصنوع يدويّاً بطريقة مميّزة ومبدعة.

وتضيف: “لا أعرف مكاناً للفشل في طريقي، ولأنني أثق بما أفعله، فقد كنت أستغلّ وقتي دائماً في عمل كلّ جديد، أحياناً كنت أنتهي من قطعة وأضعها في إحدى زوايا بيتي، وما هي إلّا أيام حتى يتم طلبها منّي، ممن زار منزلي فنالت القطعة إعجابه، وكنت أُهدي أصدقائي وأهل زوجي من اللوحات التي أقوم برسمها أو القطع التي أضع لمساتي عليها”.

وبعد ذلك، أنشأت آية صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي "شفّاف" واستقطبت بلوحاتها وقطعها عدداً كبيراً من المعجبين الذين أبدوا ذلك من خلال تعليقاتهم وطلبهم للقطع الموجودة وغيرها مما تقترحه عليهم "آية" تتناسب ذوقيْ الطرفيْن، فهي أيضاً تريد تقديم الفن المميّز.

موهبة آية .. انتقلت لأطفالها

تقول مراسلة قدس برس إن موهبة “آية” لم تقف عندها وحدها، لكنّها وعلى ما يبدو قد نمت أيضاً مع أطفالها، فـ”جنى” الصغيرة مثلاً، وأثناء اطّلاعي على دفتر الألوان الخاص بها، فهي تلوّن بطريقة جميلة على الحدود تماماً، إضافة إلى عبد الرحمن وعمر اللذيْن يحتفظان بملف خاص بهما، يحتوي على العديد من الرسومات التي تُبيّن أنهما على درب والدتهما.

يقول عبد الرحمن: “أمّي فنانة، وأنا أحبّ عملها كثيراً، دائماً أشعر بأنّها تُبدع حينما تصنع شيئاً جميلاً، وفي كثير من الأحيان تطلب رأينا، هل هذا جميل، هل ألوان هذه اللوحة جيّدة”، وكذلك أيضاً قال عمر.

في بيت آية  ساعة ملوّنة، عليها ثلاثة أكفٍّ، كفّ يدٍ صغيرة ومتوسطة وكبيرة، كل واحد بلون مختلف، هي أكفّ أطفالها "كنّا نجلس في أحد الأيام وقلت لهم هيّا نريد عمل لوحة جميلة، فاقتربوا جميعا منّي، حدّدت لكل واحد منهم مكان يده، ثم بدأت برسم أيديهم"، تقول آية.

وتلفت إلى أنها كانت تخبّئ الزجاج الذي يتكسّر من صحن أو كأس أثناء عملها في المطبخ، وتستعين به في لوحاتها، حيث قامت بتكسير المزيد من الزجاج الملوّن الذي نثرته داخل الأيادي على اللوحة، ثم تضع لمساتها، وعقارب ساعة، لتصبح لوحة فنية عائلية بامتياز.

من المعرض إلى المشروع الأول .. إنه “الحلم”

شاركت آية في أكثر من 5 معارض في مدينة القدس المحتلة، كما أنه يتم دعوتها لمعارض دولية لكن بسبب وجود الأطفال والتزامهم في الدوام المدرسي والدراسة فإنها لا تستطيع ذلك، لكنّها تقول إن زبائنها الذين تعوّدوا عليها أخذوا عشرات القطع الخاصة بها إلى الإمارات وأمريكا والسعودية والدنمارك، وأصبح لها اسماً بعد مضي أكثر من عام.

تعتبر آية أنها نجحت في اكتساب عدد كبير من الزبائن، ليصبح لها دخلها الخاص الذي تستطيع من خلاله شراء جميع المواد التي تحتاجها في عملها، رغم أنها كما أوضحت لـ”قدس برس” تعاني من عدم وجود المواد المطلوبة في العادة فهي غير متوفّرة في القدس، كما أنها تسعى حالياً إلى بناء مشروعها الصغير.

آية التي سكنت في القدس 11 عاماً، تقول إن المدينة هي الصبيّة التي حوّلها الاحتلال إلى عجوز من خلال حصارها وتقييدها فأصبحت حبيسة سور وقيود، وتقول: "أحاول أن يكون هناك رسالة واضحة أسعى إلى إيصالها في كل عمل أقوم به سواء لوحة أو قطعة، فمثلاً كاريكاتيرات الفنان ناجي العلي، وعبارات غسّان كنفاني، وكذلك الشعر مثل محمود درويش والحلّاج وجلال الدين الرومي، إضافة إلى الآيات القرآنية والزخارف الإسلامية.

وتشير أنها تميل لكل ما يتعلّق باللغة العربية لأنها تعتبرها "لغة قلبها ووطنها الحبيب فلسطين".

مواضيع ذات صلة
"آية".. فلسطينية لم يتوقف إبداعها عند ريشة الرسم
تقترب من جارورها الصغير عند إحدى زوايا بيتها، تقف هُنيْهة تحكّ رأسها وتقول في بالها “ما الذي أُريده”، ثم تقع عينيها على المطلوب تح...
2016-01-20 15:44:03
آية يوسف .. لاجئة فلسطينية في لبنان ضمن "الأكثر تأثيرًا في العالم"
تصنع الشابة الفلسطينية آية يوسف قصة نجاح في مخيمات اللجوء الفلسطيني؛ لتثبت للعالم أجمع أن العقل الفلسطيني أهلًا للإنجازات، وقادرًا...
2021-10-11 16:19:04
"ريشة وقضية" .. معرض فني يتضامن مع الشعب الفلسطيني
نظمت جمعية المرسم الجوال، وجمعية معارف مقدسية (مجد)، معرض الفن التشكيلي بعنوان "ريشة وقضية"، وذلك في المركز الثقافي الملكي، وتحت ر...
2021-11-21 18:32:46