الجوع على بعد أمتار من الكرامة العربية (بورتريه)

عمان - علي سعادة - قدس برس
|
فبراير 27, 2024 5:46 م
كان مشهدا التقط عن طريق طائرة لأكثر من ألفي شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية والأدوية لقطاع غزة تصطف وتتكدس أمام معبر رفح، بين قطاع غزة ومصر، بانتظار السماح لها بالدخول، معيبا وعارا بالعلامة الكاملة على النظام الدولي والعربي بالدرجة الأولى.
إذ لا يحتاج الأمر سوى إلى إرادة حرة يستفزها الدم والوجع الفلسطيني، الشقيق والأخ والجار، الذي تحجبه عن الموت جوعا، وعن الأمراض، أمتار قليلة من النخوة العربية، وبين الموت والحياة مسافة متر واحد.
يصبح الموت على مسافة صفر من كبرياء العربي الذي يرفض أن يرد الملهوف وصاحب الحاجة.
الجوع كافر. ينهش الأجساد ويضعفها ويدمرها ثم ينتقل إلى المرحلة الأكثر خطورة وهي تدمير الروح وكسر كبريائها وعنفوانها.
حين يقع المرء تحت وطأة لباس الجوع والخوف والموت، لا يجد أمامه سوى خوض ساحة المخاطرة من أجل لقمة خبز قد تكون مغمسة بالدم.
يدخل حقول الألغام غير مسلح بسيفه كما تقول العبارة الشهيرة "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، ولم يخرج شاهرا سيفه" وهي مقولة مشهورة، سواء نسبت للإمام علي بن أبي طالب أو للصحابي أبو ذر الغفاري.
الفلسطيني في غزة المحاصر منذ عام 2006، يجد خلاصه فقط بالمقاومة والصمود وتجاوز حالة الصبر إلى حالة الاستسلام لما يرضي الله وحده.
لا يملك سيفا ليشهره، يملك أمة تعداد سكانها 2 مليار نسمة، يعتقد أنها سيفه ودرعه، ورغم كل ما يواجهه من نكبات ونزوح وقتل ودمار لا يزال مؤمنا بأمته التي تكتفي بدور المشاهد ودور النائح.
هذا هو حال قطاع غزة، كل شيء فيه مغمس بالدم والدموع والآلام والقهر.
قد يكلف المرء للحصول على كيس طحين حياته، فالاحتلال المتوحش والمغرق في السادية يجد متعته في استهداف المدنيين الذين يضطرهم الجوع والحاجة إلى القدوم إلى حقول الموت في قطاع غزة للحصول على بعض المساعدات التي تقيم أوده وتصلح حاله، وتسد جوع أطفاله، وتبعد عنهم شبح الموت جوعا.
مجاعة، ربما لأول مرة في تاريخ الإنساني تبث على الهواء مباشرة، وعبر محطات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي، ويشاهدها العالم كما لو كانت فيلما سينمائيا أو واقعة تدور أحداثها في كوكب آخر أو مجرة بعيدة عنا ملايين السنين.
سلاح يستخدمه الاحتلال لإضعاف الروح المعنوية للشعب الفلسطيني بهدف إخضاعه وكسر إرادته، كورقة ضغط على المقاومة لرفع الراية البيضاء وتحقيق مطالبه في عقد اتفاقية للهدنة وتبادل الأسر حسب شروطه ومصالحه.
سلاح التجويع لم يكن ليشهر في وجه أكثر من 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة لولا العجز الدولي، والتواطؤ العربي والإسلامي من الباطن، والغطاء الأمريكي، وتخاذل منظمات الأمم المتحدة المختصة بالإغاثة وحقوق الإنسان والطفل والمرأة.
وهو وإن بدا وكأنه جزء من نتائج الحرب على غزة، إلا أنه في الأساس قرار سياسي وعسكري أمريكي إسرائيلي، رخصة في القتل البطيء، لا يقل خطورة عن عمليات القتل والقنص والتدمير لكل معاني وأشكال الحياة في قطاع غزة.
كل ما يأكله أهل غزة هو لسد الجوع ولإسكات المعدة عن الضرب بشدة على الأعصاب، وللحفاظ على أطفاله من الموت تحت سياط الجوع.
فغالبية ما يأكله سكان غزة على امتداد مساحة القطاع أغذية معلبة تفتقد للكثير من العناصر الغذائية الضرورية والأساسية.
أهل غزة أكلوا كل شي وأي شيء من الممكن أن يبقيهم على قيد الحياة، وهي رخصة المضطر، بما يسد رمقهم، ويبعد عنهم الجوع الكافر.
وتشير جميع الصور والمشاهد والشهادات من غزة إلى عمق الكارثة التي يتعرض لها قطاع غزة وبشكل أكثر خطورة في شمال القطاع حيث وصلت إلى درجة المجاعة الحقيقية، بسبب رفض الاحتلال السماح بوصول الإمدادات الإنسانية، وأيضا بسبب تخاذل النظام الرسمي العربي عن إدخال المساعدات المكدسة على أراضيه.
وتشير تقديرات محلية ودولية إلى أن عدد الموجودين في الشمال يتراوح ما بين 400 إلى 700 ألف فلسطيني، ويفتقر هؤلاء لأدنى مقومات الحياة الأساسية، حتى إن الظروف القاسية أجبرتهم على تناول أعلاف الحيوانات، وذبح حصان مصاب بنيران الاحتلال، وأكل ورق الشجر، من أجل البقاء على قيد الحياة، وبدت علامات الضعف والهزال الشديد واضحة على الكثير منهم.
وخلصت منظمات أممية إلى أن الهزال الشديد، وهو أكثر أشكال سوء التغذية تهديدا للحياة، وبدأ يظهر على الأطفال الصغار؛ مما يعرضهم لخطر المضاعفات الطبية والوفاة، ما لم يتلقوا علاجا عاجلا.
ووفقا لتحليل "مجموعة التغذية العالمية"، فإن 90 بالمئة من الأطفال، دون سن الثانية، و95 بالمئة، من النساء الحوامل والمرضعات، يعانون فقرا غذائيا، بينما يبدو الطعام الذي يمكنهم الحصول عليه، ذا قيمة غذائية منخفضة للغاية.
وتدعو كل من "اليونيسف"، و"برنامج الأغذية العالمي"، و"منظمة الصحة العالمية"، إلى توفير الوصول الآمن، ودون عوائق والمستدام، لتقديم المساعدة الإنسانية المتعددة بشكل عاجل، في جميع أنحاء قطاع غزة، ويشمل ذلك الأطعمة المغذية، وإمدادات التغذية، والخدمات الأساسية للأطفال والنساء، الذين يعانون سوء التغذية، والمعرضين للخطر.
وفي حين أن الجسم السليم قادر على التصدي للأمراض بسهولة أكبر، فإن الجسم الهزيل والواهن سيجد صعوبة في مقاومتها. والجوع يضعف دفاعات الجسم، ويفتح الباب أمام الإصابة بالمرض.
ويزيد سوء التغذية من خطر وفاة الأطفال؛ بسبب أمراض مثل الإسهال والالتهاب الرئوي والحصبة، في ظل بيئة تفتقر إلى الخدمات الصحية المنقذة للأرواح. بعد انهيار النظام الصحي في القطاع؛ بسبب استهداف الاحتلال للمشافي وللكوادر الطبية والصحية.
وحتى لو نجا الطفل من الهزال، فإن آثاره قد تلازمه مدى الحياة؛ لأن الهزال يعيق النمو، ويضعف النمو المعرفي.
ولأن النظام الصحي بات على شفير الانهيار، لم يبق أمام أولئك الذين يواجهون مزيجا قاتلا من الجوع والمرض سوى خيارات قليلة.
وسكان غزة، الذين عانوا بالفعل بما فيه الكفاية، يواجهون الآن الموت من الجوع وأمراض يمكن علاجها بسهولة من خلال نظام صحي فعال. وهذا لن يتوقف دون تتدفق الأغذية وغيرها من المساعدات بكميات أكبر بكثير.
ورغم الجوع والنزوح والتنقل من مكان إلى آخر بشكل متواصل، وبرغم القصف والقنص والاعتقال لا يزال الغزاوي ممسكا بقشة، بطوق نجاة، فينادي في المشاهد جميعها التي نراها على أمته "أين العرب؟!!".
وفي المواقف جميعها، وبالأعمار جميعها صغار أو كبار، تجد رسالة التحدي والصبر والثبات والتآزر بينهم، وبأن الاحتلال الهمجي الجبان لن يكسر صمودهم وإيمانهم بعدالة قضيتهم وشرعية مقاومتهم للاحتلال.
لكن مرارة خذلان ذوي القربة تؤلم أكثر من جرائم العدو.
تصنيفات : أخبار فلسطين الحرب على غزة