الجماصي.. دينامو "حماس" وذراع الشيخ أحمد ياسين

لا يزال سكان "حي الصبرة" جنوب غرب مدينة غزة يتذكرون ذلك الشاب اليافع الذي كان قبل نحو أربع عقود يجوب الحي بدراجته الهوائية، داعيًا الجميع إلى الصلاة في المسجد والالتزام بآداب الإسلام الحنيف.
كان ذلك قبل اندلاع انتفاضة الحجارة في نهاية عام 1987، والتي شهدت انطلاق الحركة الإسلامية تحت اسمها الجديد "حركة المقاومة الإسلامية حماس".
ومع بداية هذه الحركة، تحول هذا الفتى إلى أحد أبرز نشطائها، مشاركًا في الانتفاضة والحركة الطلابية. فقد كان دائمًا في الصفوف الأمامية، يرشق قوات الاحتلال بالحجارة، سواءً كان مكشوف الوجه أو ملثماً بكوفيته الحمراء.
النشاط المكثف للقيادي البارز في حركة "حماس"، محمد الجماصي (58 عامًا)، قبل 40 عامًا أمرٌ لفت انتباه الشيخ أحمد ياسين، مؤسس الحركة، الذي أعجب بنشاطه واختاره، رغم صغر سنه (20 عامًا آنذاك)، ليكون ضابط الاتصال له، ويؤتمن على أسرار الحركة. بجانب ذلك، ساعده في الدعوة إلى الله والعمل الطلابي، كما استمر الجماصي في مساعدة الشيخ المقعد خلال اجتماعاته واتصالاته.
لم يؤثر العمل مع الشيخ ياسين على نشاطه في مجالات أخرى بل زاد من دافعه، إذ كان الجماصي، بحسب رفيق دربه أبو همام، يقطع مسافات طويلة بدراجته الهوائية من منزلهم القديم في شارع الثلاثيني إلى منزل الشيخ أحمد ياسين في "المجمع الإسلامي" نهاية "حي الصبرة".
وأوضح أبو همام في حديثه مع "قدس برس" أن الجماصي، الذي اغتيل الأسبوع الماضي مع تجدد العدوان على غزة، استمر في نشاطه حتى تعرض نشطاء حركة "حماس" لحملة اعتقالات كبيرة، طالت الشيخ أحمد ياسين في 15 أيار/مايو 1989، حيث كان الجماصي واحدًا من مئات النشطاء الذين اعتقلوا.
وأشار أبو همام إلى أن اعتقال الجماصي أدخله مرحلة جديدة في حياته، صقلتها بشكل كبير؛ إذ لم يعترف بأي من التهم الموجهة إليه، بما في ذلك كونه ذراع الشيخ أحمد ياسين وضابط الاتصال بينه وبين قيادات الحركة المختلفة.
ورغم التعذيب الشديد الذي تعرض له طوال 70 يومًا، ورغم نحافة جسمه، إلا أنه لم يعترف بأي من التهم، وحُكم بناءً على اعترافات الغير وفق القانون الإسرائيلي المعروف بـ "وتامير"، الذي ينص على أن الحكم يُصدر في حال اعترف عليه اثنان من المتهمين، حتى لو لم يعترف المتهم ذاته.
بعد عام من التحقيق، أصدرت محكمة عسكرية إسرائيلية حكمًا بالسجن لمدة 5 سنوات، قضّاها كاملة مع بقية قيادات الحركة.
خرج الجماصي من السجن عام 1994 ليجد الكثير من الأمور قد تغيرت بفعل تأسيس السلطة الفلسطينية، لكنه ظل ناشطًا بنفس الروح بل وزيادة.
التحق الجماصي بالجامعة الإسلامية بغزة لدراسة الهندسة، ورغم انشغاله بعمله في الحركة، كان يتفوق بشكل ملحوظ سريع الحفظ والفهم.
ظلّت شخصية الجماصي، بحسب أبو همام، مرتبطة بالنشاط الدعوي، وتلقى التأثير الكبير من إخوته الذين كانوا شاغلين لمناصب رفيعة في مجالات التعليم والقضاء؛ فشقيقه الأكبر، إسماعيل الجماصي، كان رئيس مديرية تعليم غزة، وشقيقه الشيخ ياسين الجماصي كان قاضي غزة الشرعي، وكذلك شقيقاه فؤاد وعلاء. وكان محمد هو الأصغر بينهم.
تعرض الجماصي للملاحقة من قبل السلطة الفلسطينية لنشاطه في حركة "حماس"، ولكن دون أن تتمكن من اعتقاله.
وكشف أبو همام أن الجماصي لعب دورًا مهمًا في إعادة ترتيب أوضاع الحركة في قطاع غزة، بعد الضربة الكبيرة التي تعرضت لها من قبل السلطة الفلسطينية، حيث استطاع إعادة النهوض بالحركة.
بعد تخرجه من الجامعة الإسلامية، التحق الجماصي للعمل في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والتي على الرغم من ضغوطاتها، واصلت شغل منصب رئيس اتحاد موظفي الوكالة الذي تسيطر عليه حركة "حماس".
مع اندلاع انتفاضة الأقصى، لعب الجماصي دورًا مهمًا في مجال التدريب الأمني وإعداد مقاتلي الحركة، حيث نجا من عدة محاولات اغتيال وتعرض منزله للقصف والهدم عدة مرات.
ورغم اختفاء الجماصي عن الأنظار منذ بداية العدوان على غزة في السابع من أكتوبر 2023، إلا أنه كان حاضرًا بقراراته حيث كان يقود لجنة الطوارئ لمساعدة سكان غزة على تجاوز تداعيات الحرب.
وفي فجر يوم 18 آذار/مارس 2025، استهدفت طائرات الاحتلال منزل الجماصي في "حي الصبرة"، ما أسفر عن استشهاده هو وعائلته، مما أضاف فاجعة جديدة إلى المشهد الأليم الذي يعاني منه أبناء غزة في ظل استمرار العدوان.
تُظهر مسيرة محمد الجماصي، الذي كان يُعتبر دينامو حركة "حماس"، التزامه العميق بقضايا شعبه وظروفه الصعبة. ازدهرت جهوده في الدعوة والتوجيه والمشاركة الفعالة في العمل الاجتماعي والسياسي خلال العقود الماضية، مما جعله رمزًا مميزًا للصمود والمقاومة في وجه الاحتلال.
سيبقى ذكر الجماصي حيًا في قلوب محبيه وأبناء "حي الصبرة"، الذين شهدوا عن قرب تطور مسيرته الملهمة. إن اغتياله لم يكن مجرد استهداف لشخصه بل كان استهدافًا لروح المقاومة التي تمثلها حركته، التي لا تزال تسعى إلى تحقيق العدالة والحرية لشعب فلسطين.