قراءة في المقترح الأمريكي الجديد لوقف إطلاق النار في غزة

في خضم تسريبات متزايدة حول تفاصيل الورقة الأمريكية لوقف إطلاق النار في غزة، تتحدث تقارير إعلامية عن مقترح مختلف من حيث الشكل والمضمون، تطرحه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بصيغة تحمل ملامح تحول سياسي لافت.
هذه الورقة، التي يُروّج لها على أنها اتفاق متكامل يمتد لـ60 يومًا، تتضمن بنودًا غير مسبوقة، كوقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب تدريجي لقوات الاحتلال، وإدخال مساعدات إنسانية تحت إشراف دولي مباشر، ما يفتح الباب أمام مفاوضات أوسع تشمل تبادل الأسرى وترتيبات ما بعد الحرب.
ويرى محللون فلسطينيون أن هذا المقترح، في حال تطبيقه، قد يشكل نقطة تحول استراتيجية في إدارة الصراع، إذ يعكس إدراكًا ضمنيًا بفشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية، ويُجبر الأطراف الدولية على التعامل مع الواقع الإنساني الكارثي في غزة بجدية أكبر. كما يؤكد هؤلاء أن نجاح أي مسار سياسي لن يقاس بتوقيع الاتفاقيات فقط، بل بمدى التزام الأطراف بتنفيذها على الأرض، وضمان عدم تحولها إلى هدنة مؤقتة تستغلها إسرائيل لإعادة ترتيب صفوفها.
وفي المقابل، يحذر آخرون من الانخداع بتسريبات إعلامية قد تسعى إلى خلق انطباع زائف عن تقدم ملموس، مؤكدين أن الغموض وعدم وضوح الضمانات ما زالا يمثلان عقبة كبرى أمام تحقيق وقف دائم وشامل للعدوان.
تحول سياسي
قال المحلل السياسي إياد القرا إن المقترح الأمريكي الأخير لوقف إطلاق النار في غزة، يمثل ـ من حيث الشكل والمضمون ـ تحولًا سياسيًا لا يمكن تجاهله.
وأوضح القرا في حديث لـ"قدس برس" أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ولأول مرة، تتحدث صراحة عن وقف دائم للحرب، وتطرح جدولًا زمنيًا واضحًا لوقف إطلاق نار يمتد لـ60 يومًا، يتضمن انسحابًا إسرائيليًا من مناطق في الشمال والجنوب، وترتيبات دقيقة لإدخال المساعدات الإنسانية بإشراف أممي مباشر.
وأشار إلى أن ما يميز هذا المقترح عن المبادرات السابقة هو معالجته للقضايا الجوهرية بدلًا من الالتفاف حولها، مضيفًا: "نحن أمام بنود واضحة تبدأ بوقف النار، وتنطلق فورًا نحو مفاوضات تشمل تبادل الأسرى، والترتيبات الأمنية، وصياغة مرحلة ما بعد الحرب، وصولًا إلى وقف شامل ودائم للعدوان".
وأكد القرا أن الأهمية الأبرز في هذا المقترح تكمن في اعتراف ضمني بفشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية، وبأن الواقع الإنساني الكارثي في غزة بات يفرض نفسه على صانع القرار الغربي.
وأوضح أن الموقف الفلسطيني في التعامل مع المقترح يُبنى على معيارين أساسيين: أولًا، حماية الشعب الفلسطيني من المجازر المستمرة، وثانيًا، تحقيق مكاسب سياسية وإنسانية دون التفريط في ثوابت المقاومة والحقوق الوطنية.
وأضاف: "القبول بالمقترح، إذا توفرت الضمانات الكافية، لا يُعد تراجعًا، بل استثمارًا ذكيًا لصمود شعبنا ومقاومته، وتحويل هذا الصمود إلى إنجاز سياسي على الأرض، خصوصًا في ظل المأزق السياسي الذي يعيشه الاحتلال، ومحاولات نتنياهو الخروج من ورطة غزة لإعادة تركيزه على الملف الإيراني واستثمار دعم ترمب الانتخابي".
وتابع: "من هذه الزاوية، لا يُغلق المقترح الباب أمام المقاومة، بل يمنحها فرصة لإعادة التموضع سياسيًا، وتعزيز حضورها كطرف فاعل في المعادلة، لا مجرد جهة يُطلب منها القبول والتوقيع".
كما أكد أن نجاح أي مسار سياسي لا يُقاس بتوقيع الاتفاقيات، بل بمدى التزام الأطراف بتنفيذ البنود، وضمان عدم تحوّل الاتفاق إلى هدنة مؤقتة يستغلها الاحتلال لترتيب صفوفه".
وختم قائلاً: "ما هو مطلوب اليوم هو الوضوح، والضمانات، والاستعداد الدائم لتثبيت الحقوق وردع أي محاولة للالتفاف أو الخداع".
انطباع مزيف
من جهته، دعا المحلل السياسي إبراهيم المدهون إلى الحذر من الوقوع في فخ الإعلام الموجّه، مؤكدًا أن "ما يُروَّج في المنصات الإعلامية لا يعكس بالضرورة الحقيقة الكاملة".
وأشار في حديث لـ"قدس برس" إلى أن ما صرّح به الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مؤخرًا بشأن موافقة نتنياهو على الورقة الأمريكية، لا يعكس الواقع، لأن "الورقة ما تزال قيد النقاش، ولم يصدر عن الاحتلال حتى الآن أي موقف رسمي أو التزام واضح بشأنها".
وأضاف أن "الاحتلال الإسرائيلي قد يتنصّل لاحقًا من تنفيذ ما يُتفق عليه، أو يضع العراقيل كعادته، رغم أن حركة حماس قد تبدي مرونة وتتجاوب مع المبادرة من منطلق وطني ومسؤول".
وشدّد المدهون على "ضرورة الحذر من تصريحات ترمب والإعلام الإسرائيلي، والتي تهدف إلى خلق انطباع مزيف بأن المشكلة في الطرف الفلسطيني وتحميله مسؤولية التعطيل، بينما في الحقيقة، الاحتلال ما زال يناور ويتخابث".
وقال: "في تقديري، حركة حماس لا تمانع مبدئيًا القبول بهدنة، لكنها تطالب بضمانات واضحة، من أبرزها: أن يتم الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين العشرة بشكل تدريجي على مدار 60 يومًا، وليس دفعة واحدة، وأن يتم ضمان إدخال المساعدات الإنسانية بشكل منتظم وآمن، دون ابتزاز أو تعطيل إسرائيلي".
وتابع: "أما باقي بنود الورقة، فأغلبها يقع ضمن الممكن، إذا جرى التعامل معه بحكمة ومرونة دون المساس بالثوابت الوطنية".
وأكد المدهون أنه "حتى الآن، لا توجد ضمانات عملية أو قانونية تضمن تنفيذ البنود بدقة، لا من الطرف الأمريكي ولا من أي جهة دولية أخرى"، مضيفًا أن "الضمان الوحيد الحقيقي يتمثل في المتابعة الدقيقة لسلوك الاحتلال، وضبط التوزيع الزمني للإفراجات".
وختم بالقول: "حماس معنية بإنهاء هذه الحرب، وستبذل ما تملك من قوة ومرونة ومسؤولية لتحقيق ذلك، ما دام هذا المسار لا ينتقص من كرامة شعبنا، بل يحفظ حقوقه ويمهّد لمرحلة جديدة من الصمود والإنجاز".
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال أول أمس الثلاثاء، في منشور على منصته تروث سوشيال إن "(إسرائيل) وافقت على الشروط اللازمة للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة لمدة 60 يوما"، مبيّنا أن "الوسطاء القطريين والمصريين سيتولون تقديم مقترح نهائي".
وقالت حركة "حماس" في بيان إن "الوسطاء يبذلون جهودا مكثفة من أجل جسر الهوة بين الأطراف، والوصول الى اتفاق إطار، وبدء جولة مفاوضات جادة".
وأضافت الحركة أنها تتعامل بمسؤولية عالية، وتجري مشاورات وطنية لمناقشة ما وصل من مقترحات الوسطاء، من أجل الوصول إلى اتفاق يضمن إنهاء العدوان، وتحقيق الانسحاب، وتقديم الإغاثة بشكل عاجل في قطاع غزة.
وتواصل قوات الاحتلال وبدعم أمريكي مطلق منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023 عدوانا على قطاع غزة، خلّف حتى اليوم أكثر من 191 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، فضلا عن مئات آلاف النازحين.