الكوادر الطبية.. في الخطوط الخلفية على مرمى بندقية (بورتريه)
مرابطون في الخطوط الخلفية، متشبثون بمواقعهم وهم يعرفون تماما أن النجاة من الموت قدر ونصيب وعلى مرمى بندقية قناص جبان.
يرفضون ترك واجبهم الإنساني والوطني، واختاروا البقاء في الخطوط الخلفية وعلى خط النار، وتحت القصف والحزم النارية والحرارية.
يواجهون الموت والاعتقال والتعذيب وجميع أنواع الممارسات العنصرية والفاشية التي تمارسها قوات الاحتلال على أرض غزة.
صابرون يتحملون ضغط العمل وقلة الإمكانات، ويحاولون تخفيف الآم وأوجاع المرضى والمصابين بكل شجاعة وصمود، لكنهم حين يختلون بأنفسهم، ويأخذون نصيبا من الراحة، يبكون بحرقة، وتتمزق قلوبهم وتنزف حزنا وقهرا على ما يشاهدونه من فظائع في أروقة وغرف المستشفيات.
الاحتلال يستهدف بشكل دائم الكوادر الطبية والصحية ليس في غزة فقط وإنما أيضا في الضفة الغربية، وقد بحت حناجرهم وهم يصرخون في الضمير العالمي لوقف استهداف المستشفيات وكوادرها التي لم تعد قادرة على تقديم أية خدمة للمصابين الذين في غالبيتهم أطفال وأمهات مصابون بجروح خطرة يموتون وهم ينزفون أمام الكاميرات.
ورغم أن الهجوم على المشافي وتدميرها والاعتداء على الكوادر الطبية جريمة بشعة ونكراء طبقا للقانون الدولي الإنساني، إلا أن قوات الاحتلال تجاوزت جميع الخطوط، وبجميع ألوانها مرارا وتكرارا وأمام الكاميرات، والعالم يشاهد ولا يحرك ساكنا وكأنه اعتاد المشهد.
رغم أن القاعدة 35 من القانون الدولي الإنساني تنص على أنه "يحظر توجيه هجوم على منطقة أنشئت لإيواء الجرحى والمرضى والمدنيين وحمايتهم من آثار القتال".
كما يحمي القانون الدولي الإنساني كل من يوجد داخل المستشفى من مدنيين وجرحى ومرضى، والعاملين في المجال الطبي والديني، وموظفي الإغاثة الإنسانية، فجميعهم فئات محمية وفقا لقواعد القانون الدولي.
ولكن وفقا للمادة 13 من الملحق الأول الإضافي لاتفاقية جنيف، وهي جزء من القانون الدولي الإنساني، فإن هذه الحماية سارية بشرط ألا "تستخدم المستشفيات لارتكاب أعمال ضارة بالعدو، خارج نطاق وظيفتها الإنسانية".
وفي حالة غزة، فإن الصمت الدولي خصوصا الأمريكي والأوروبي، يمنح الاحتلال رخصة في القتل بعد نشر مزاعم وأكاذيب أصبحت مجال للسخرية في العالم التي ثبت عدم صحتها، ولم يقدم الاحتلال دليلا واحدا على استخدام المستشفيات من قبل المقاومة ولا بأي شكل من الأشكال .
ومواصلة لأكاذيبه فقد أخرج الاحتلال غالبية المستشفيات والعيادات والمرافق الصحية والطبية من الخدمة بعد قصف مبانيها، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية ومراكز اعتقال وتحقيق، يحتجز بداخلها عشرات من الكوادر الطبية والمرضى والنازحين.
الهجمات العسكرية الصهيونية المتواصلة على قطاع غزة يرافقها تعمد الاستهداف الواسع للمرافق الصحية، وإبقاء تقديم خدمات الرعاية الصحية محفوفة بالمخاطر للغاية، وبأقل من الحد الأدنى الضروري لإبقاء السكان على قيد الحياة.
وحتى الآن تم استهداف نحو 235 مرفقا صحيا، بينهم 26 مستشفى و63 عيادة و146 سيارة إسعاف، بحيث أصبح عدد ما يعمل الآن من المستشفيات هو فقط 13 مستشفى، وبشكل جزئي، من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة، فيما ما يزال أقل من 17% من مراكز الرعاية الصحية الأولية تعمل وتقدم خدماتها جزئيا.
ويواجه أكثر من 110 من الكوادر الطبية في غزة الذين قام الاحتلال باختطافهم أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني، عقابا لهم على صمودهم في أماكن عملهم، ورفضهم التخلي عن واجبهم المهني والوطني والإنساني، مصيرا مجهولا.
فيما كتبت الشهادة لأكثر من 300 من العاملين في هذا القطاع، من طب وتمريض ومختبرات وأشعة وصيدلة وإسعاف وغيرها من الخدمات الطبية المساعدة.
ولا يتوقف الاحتلال الفاشي المارق الذي تمرد على جميع المواثيق والقوانين والعهود الأخلاقية التي عرفها الإنسان المعاصر، عن عمليات الخطف والتعذيب للأطباء والممرضين الفلسطينيين بشكل ممنهج، واستهداف سيارات الإسعاف، أمام أنظار العالم الذي يتموضع على بعد أمتار من الإبادة.
على رأس الكوادر المختطفة يبدو مدير مستشفى الشفاء الدكتور محمد أبو سلمية الذي اعتقله جيش الاحتلال لأنه رفض أن يتخلى عن مرضاه، وبقي صامدا في خندق الإنسانية يخدم مرضاه في الخطوط الخلفية، خطوط النار والرصاص والمدافع والدبابات.
فيما كانت إصابة الدكتور منير البرش المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة بجروح مع جميع أفراد عائلته، واستشهاد ابنته في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في جباليا، رسالة بأن العقل المريض الذي يدير هذه الحرب في "تل أبيب" مجرد من أية مشاعر أو أحاسيس وبأنه يعامل الفلسطينيين بوصفهم خارج العنصر البشري.
أمام المحرقة والجرائم المتواصلة تكتفي الجهات الدولية ذات العلاقة والصلة مثل منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر ومنظمة اليونسيف ووكالة "الأونروا" بموقف المتفرج العاجز الحيران الذي يكتفي بدور إحصاء الموتى والكوارث، وكأنها منظمات حفروا القبور، والبكاء على الأطلال.
الكوادر الطبية يعملون بلا أدوات، والمساعدات التي تدخل قطاع غزة شحيحة ولا تغني ولا تسمن من جوع، واضطر الأطباء أحيانا لإجراء عمليات جراحية دون تخدير لعدم توفره، وبعض المصابين مات من الصدمة وبعضهم مات وهو ينزف، ومن كتبت له النجاة لا يزال يعاني من أثار الإصابة والصدمة العصبية.
كانت مشاهد هذه الكوادر وهم يتلقون أنباء وفاة عائلاتهم وهم على رأس عملهم مؤثرة، ومغرقة في التراجيديا والمأساة والعويل الذي هو إعلان رسمي عن موت الضمير والقيم.
وتعمد استهداف الكوادر الطبية يضع سكان قطاع غزة في دائرة الموت بالاستهداف المباشر أو القتل في ظل نقص الوقود والأطقم الطبية والإمداد، مما قد يدفعهم إلى المغادرة القسرية بحثا عن العلاج والمأوى.
مئات الآلاف من الجرحى والحوامل والأطفال والمرضى المزمنين، بلا خدمات صحية ويقضون أياما كاملة دون تناول الطعام، فيما تقترب غزة من المجاعة بسبب الحصار وإغلاق أهم معبر والمتنفس الوحيدة لغزة، معبر رفح الحدودي مع مصر.
الاحتلال حول المستشفيات إلى مقابر وإلى مراكز للمعاناة والموت والتحقيق بفعل الصمت العالمي ودفاع الولايات المتحدة الأمريكية عن جرائم الاحتلال، وبعد أن فجر الاحتلال المستشفى المعمداني وتسبب في مقتل أكثر من 500 فلسطيني ولم يعاقب، فقد اعتبر ذلك تصريحا بالقتل وتدميرا لكل معاني الحياة في غزة.
و"من أمن العقوبة أساء الأدب"، فكيف إذا كان من يقوم بهذا الفعل عدو مجرم ونازي يحظى برعاية أمريكية وغربية توافقه على جميع جرائمه وتوحشه وأكاذيبه، وأخرها كذبة موظفي "الأونروا" الفاضحة، لكن الغرب صدقها دون أن يسأل عن الدليل.
لذلك يواصل الاحتلال جرائمه طالما أن هناك من يقوم بالتربيت على كتفه، ومنحه مكافأة على كذبه وجرائمه بالمزيد من المليارات وشحنات الأسلحة التي لا تتوقف.
ورغم كل ذلك يبقى الأطباء والكوادر الطبية ملتصقون بما يميله عليهم الضمير والقيم والأخلاق التي يفتقدها الآخرون بشكل صادم.