المحاكم الدولية تطارد القتلة وداعمي "الإبادة الجماعية" (بورتريه)
قضاة وإدعاء عام، ومحامون مختصون بالقانون الدولي، يؤكدون بأن ثمة إبادة جماعية وجرائم حرب ترتكب في غزة من قبل جيش الاحتلال المنفلت من أية ضوابط أو أخلاقيات والذي يزدري العالم الحر بكل صفاقة واستعلاء.
موقف مكرر من الاحتلال الصهيوني والداعمين والممولين لجرائمه، وهو التشكيك بهذه المحاكم التي أنشئت أصلا على يد الغرب من أجل العدالة وعدم إفلات الجناة من العقاب، باستثناء أن يكونوا هم الجناة.
في المحكمة الأولى كان قرار رئيس الإدعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية "كريم خان"، بإصدار مذكرة اعتقال اثنين من قادة دولة الاحتلال متأخرا نحو 7 أشهر، لكنه أفضل من لا شيء، أو كما يقول المثل الإنجليزي "أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا".
قرار متحيز وضع المقاومة في دائرة الاتهام نفسها مع القوة المعتدية والمحتلة التي تمارس جرائم إبادة متواصلة.
لذلك لم يعجب القرار جميع الأطراف، الضحية والجلاد، لكنه رغم ذلك كان قرارا لافتا وتاريخيا لأنه للمرة الأولى التي توضع فيها دولة الاحتلال وقادتها في دائرة ارتكاب الإبادة والمحرقة، في مشهد يعيد نسخ محكمات "نورنبيرغ"، التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لكبار القادة الألمان الباقين على قيد الحياة بتهمة جرائم ألمانيا النازية.
وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الصهاينة رأس الحربة في الاستعمار الحديث ووريث الاستعمار القديم، أعلن خان سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إضافة إلى ثلاثة من قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وهم، رئيس حركة "حماس" في قطاع غزة يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، محمد الضيف، ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، كونهم وفق بيان خان "يتحملون المسؤولية الجنائية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة وإسرائيل" على خلفية الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ولا يمكن أن تفهم لماذا لم يشمل قرار كريم خان المطالبة باعتقال رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي أيضا وقادة الجيش الميدانيين!
ولماذا أقحم اسم "هنية" بالموضوع مع أنه لا علاقة مباشرة له بالجناح العسكري للحركة وبالحرب، على عكس نتنياهو صاحب القرار الأول والأخير إسرائيليا.
وتحاكم المحكمة الجنائية الدولية التي مقرها لاهاي بهولندا، الأفراد بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، في حين أن محكمة العدل الدولية التي يقع مقرها في لاهاي أيضا هي أعلى هيئة تابعة للأمم المتحدة مختصة بالنزاعات بين الدول، مما يجعلها الجهاز الوحيد من بين ستة أجهزة رئيسية للأمم المتحدة غير موجودة في نيويورك.
وهي المحكمة الثانية التي يقف فيها الاحتلال بثوب المتهم الذي تقطر يديه بدماء أطفال وأمهات قطاع غزة بعد أن نظرت في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال بشأن حرب غزة في كانون الثاني/ يناير الماضي.
واتهمت دولة الاحتلال بأنها انتهكت اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، من خلال حملتها العسكرية في غزة.
وتعد الإبادة الجماعية أصعب جريمة يمكن إثباتها لأن "نية الإبادة الجماعية" لا تنطوي فقط على قتل الناس وهي تشمل أيضا إثبات أن الدولة المتهمة بهذه القضية تريد تدمير جماعة قومية أو أثنية أو عرقيّة أو دينية، كليا أو جزئيا.
ووضعت جنوب أفريقيا قضيتها ضمن مفهومها الأوسع وبسياق تاريخي يتمثل في "سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال نظام الفصل العنصري الذي دام 75 عاما، واحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينيّة الذي دام 56 عاما، وحصارها لغزة الذي دام 16 عاما".
وبعد مداولات والاستماع لجميع الأطراف أمرت المحكمة دولة الاحتلال باتخاذ عدد من التدابير المؤقتة لحماية الفلسطينيين ومنع الإبادة الجماعية في غزة.
ورفضت رد القضية بناء على طلب تل أبيب ورأت بأنها من اختصاصها، وأمرت الاحتلال بوقف أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، والسماح بتدفق المساعدات، في حين لم تصل إلى حد الأمر بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة.
ولاحقا في شباط/ فبراير الماضي، لم توافق محكمة العدل الدولية، على طلب جنوب إفريقيا بفرض إجراءات عاجلة إضافية لحماية مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وشددت على أنه يتعين على الاحتلال الالتزام بطلبات المحكمة والتدابير التي اتخذتها المحكمة سابقا تكفي.
ثم كانت الجلسة الثالثة لمحكمة العدل الدولية يوم الجمعة حيث أصدرت المحكمة برئاسة القاضي نواف سلام، استجابة لطلب جنوب إفريقيا، تدابير مؤقتة جديدة تطالب قوات الاحتلال بأن "توقف فورا هجومها على مدينة رفح، وأن تحافظ على فتح معبر رفح لإدخال المساعدات ، وأن تقدم تقريرا للمحكمة خلال شهر عن الخطوات التي اتخذتها في هذا الصدد. وأن تضمن وصول أي بعثة لتقصي الحقائق ترسلها الأمم المتحدة للتحقيق في الإبادة الجماعية".
بالطبع أصاب هذا القرار دولة الاحتلال بحالة من النزق والانفلات وبدلا من اتخاذ التدابير ادعى بيان مشترك صدر عن مكتب رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي، ووزارة الخارجية، نشره مكتب بنيامين نتنياهو، أن الاتهامات التي وجهتها جنوب إفريقيا لـ"تل أبيب" حول إبادة جماعية "اتهامات كاذبة ومشينة ومثيرة للاشمئزاز".
حركة حماس رحبت بـ"القرار، وإن كانت تأمل وتتوقع قرارا بوقف العدوان والإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في كل غزة، وليس في رفح فقط".
وعلى أرض المعركة ومباشرة بعد صدور القرار شن الاحتلال هجوما عنيفا على مدينة رفح، ردا على طلب وقف إطلاق النار، وكأنه يقول للعدالة والعالم، لا اكترث بكم جميعا، أنا وبعدي الطوفان، بعد أن وجد نفسه أمام عزلة دولية غير مسبوقة.
وعلى الرغم من تجاهل "تل أبيب" قرارات هذه المحكمة في مناسبات سابقة، ورغم أن الهيئة القانونية العليا للأمم المتحدة لا تمتلك أي وسيلة لتنفيذ قراراتها، فإن أوامر اليوم يشكل ثقلا دوليا كبيرا من المتوقع أن يزيد عزلة "تل أبيب" السياسية، بعد سلسلة من الانتهاكات المسجلة داخل القطاع المحاصر لأكثر من 7 أشهر.
المحكمتان وضعتا داعمي الاحتلال أمام مأزق كبير وفي الزاوية، وإن بدت الولايات المتحدة الأمريكية بصورة الرافض بشراسة لكل ما يتعلق بهذه القرارات إلا أن ذلك يجعل منها ومن المحرضين على الحرب على غزة مثل فأر مذعور يختبئ في زاوية الغرفة، فالمحكمة في وقت سابق قالت إن "الدول التي تزود إسرائيل بالمساعدة، سواء كانت غطاء دبلوماسيا أو مساعدة عسكرية فعلية، يمكن اعتبارها متورطة أيضا".
وعلى وقع كل ذلك فهل تبدو مقولة "أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا" خادعة بعد أن حل القتل والدمار بكل مكان في قطاع غزة، أم يكون خطوة في اتجاه مزيد من العزلة لدولة الاحتلال وبدء سقوطها الأخير قبل إسدال الستار!